بقلم - سام منسى
إن قصف الميليشيات الحوثية الخمينية الولاء والمدعومة من إيران لأبوظبي، الأسبوع الفائت، بالمسيّرات والصواريخ، سيكون له تداعيات على الحرب الدائرة في اليمن قد تشكل نقطة تحوّل خطيرة في مساعي السلام في المنطقة، وتُعدّ ضربة للأولوية الدبلوماسية التي تعتمدها الدول الغربية بعامة، وأميركا بخاصة، في معالجة مشكلاتها.
بداية، استهداف الحوثيين للعمق الإماراتي مرتبط من دون أدنى شك بالمعارك في مناطق يمنية نفطية وغازية استراتيجية بالنسبة إليهم حققت فيها «ألوية العمالقة» المدعومة من الإمارات انتصارات مهمة؛ فاستعادت السيطرة على محافظة شبوة، وتقدمت في محافظة مأرب، لتتمكن من ترجيح الكفة لصالح القوات الحكومية، في تطور قد يغيّر معادلة الصراع في اليمن.
في واقع الأمر، ليس لدى الحوثيين مشكلة كبرى مع الإمارات إذا اقتصر دعمها على الجنوبيين، لكن أن يصل إلى المناطق التي يعتبرونها استراتيجية، وهي الساحل الغربي وشبوة ومأرب، فهذا خط أحمر، لأن خسارتها انتكاسة جسيمة تكلفهم ورقة رابحة مهمة، وهذا ما سعّر منسوب التوتر لديهم، كما لدى راعيتهم، إيران، وظهر ذلك بالنبرة المتشنجة لقائد «حزب الله»، حسن نصر الله، المكلف إدارة المعركة، كما بالرسالة التي وجهوها إلى قلب الإمارات.
تمكن مقاربة هذا الاعتداء عبر عدستين: الأولى إيرانية؛ فبصمة الراعي الإيراني واضحة، لأن الحوثيين لا يجرؤون عليه عملانياً وسياسياً من دون ضوء أخضر منه، وهو يُعد تعبيراً حقيقياً عن سياسة طهران المزعزعة للأمن في الإقليم، كما عن ازدواجية خطابها وسلوكها؛ فهي من جهة تخوض مفاوضات نووية مع المجتمع الدولي وأخرى استكشافية مع المملكة العربية السعودية، وتعلن فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الإمارات، ومن جهة أخرى، تواصل سياستها التوسعية عبر دعم حرسها الثوري الحاكم بأمره للجماعات الخارجة عن الدول لتفكيك الدولة الوطنية في المنطقة، وضرب طوق على جوارها الحيوي، في تجيير واضح للمسار الدبلوماسي لصالحه. والعدسة الثانية أميركية، لأن هذا الاعتداء هو نتيجة شبه مباشرة لسياسات واشنطن الرمادية في المنطقة، كقرار الرئيس الأميركي جو بايدن إزالة الميليشيات الحوثية عن لوائح الإرهاب، الذي لم يتمخض إلا عن تقوية شوكة الحوثيين وإعطائهم مجاناً مشروعية سمحت لهم بمواصلة القتال.
في ظل المعطيات الحالية، يبدو أن سيناريو التصعيد هو المرجح في اليمن، وليس سيناريو التفاوض، ويبدو أيضاً أن الرد الإماراتي على الاعتداء سيكون عبر انخراطها أكثر في الحرب ضد الحوثيين. على الصعيد الأمني، من المحتمل أن تتوجه «ألوية العمالقة» إلى تحرير محافظتي البيضاء وتعز، إضافة إلى محاصرة مطار صنعاء، وحتى محاولة استعادة الحديدة. أما في السياسة، فالأكثر رجحاناً هو أن تكثف أبوظبي الضغوط على الولايات المتحدة لإعادة إدراج الحوثيين على لوائح الإرهاب.
بالنسبة إلى إيران، يشير توقيت الهجوم إلى تورطها فيه. فإضافة إلى سعيها لتحييد الإمارات في الصراع الدائر في اليمن مع الخسائر التي تكبدها الحوثيون مؤخراً، تزداد الضغوط عليها على جبهة المفاوضات النووية، وقد تقدِّم عبر هذا الهجوم مثالاً لما سيحدث من اعتداءات على النقل البحري من الخليج إلى البحر الأحمر، وهجمات على البنية التحتية للطاقة في الإمارات والبلدان الأخرى من شركاء الأمن للولايات المتحدة في المنطقة، إذا فشلت.
وفي هذا السياق، لا يمكن عزل هذا الهجوم الإيراني الصنع عن تحركات ومواقف شهدها الأسبوع الماضي، أبرزها زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لموسكو وإعلانه عن مشروع عشريني للتعاون بين البلدين يشمل الاقتصاد والتسلح وتعزيز أواصر التعاون بينهما، بهدف إبلاغ مَن يهمه الأمر بأن إيران قادرة على كسر العزلة التي تفرضها واشنطن عليها، وإضافة جديد على اتفاقية التعاون مع الصين.
إنما حقيقة المشهد أن روسيا وإيران هما بمثابة الأعرج الذي يحاول مساعدة أعرج آخر، فكل ضجيج موسكو لا يخفي اقتصادها المتدهور، كما نفاد صبر المجتمع الدولي من مغامرات رئيسها التي قد تعرض البلاد لأقصى العقوبات، أسوة بإيران التي تحاول جاهدة الإفلات منها. وفي هذا السياق دلّت الزيارة على أن العلاقات بين البلدين لا ترقى إلى تحالف، بل إلى الحاجة المشتركة لمشاكسة واشنطن.
الحدث الثاني هو ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الأميركي جو بايدن بمناسبة مرور سنة على توليه الرئاسة، والذي غلبت السياسة الداخلية على مضمونه بشكل لافت. ركز بايدن على انتقاد سلوك الرئيس السابق دونالد ترمب ومكافحة إدارته لوباء «كوفيد - 19» وما ستنفقه واشنطن على تجديد البنى التحتية والسياسات الاجتماعية في البلاد، وكيف ستعالج التضخم جراء العراقيل التي تواجه عمليات التزويد ونقل البضائع، لا سيما من الصين، إضافة إلى تعديل قانون حق التصويت. واقتصر شق الخطاب المرتبط بالسياسة الخارجية على رفض الاعتذار عن خروج بلاده المخزي من أفغانستان، وكاد يعطي إجازة للرئيس الروسي لغزو أوكرانيا بقوله إن بوتين قد يقدم على مثل هذا الأمر، والرد سوف يقتصر على العقوبات!
لم يعطِ الخطاب الأهمية التي تقتضيها سياسات وسلوك الرئيس الروسي «المغامراتية»، واستعراض القوة الذي يقوم به من كازاخستان حيث قمع الانتفاضة الشعبية، إلى استقباله الرئيس الإيراني وتعزيز التعاون مع طهران، إلى ما يجري على الحدود الأوكرانية. كل ذلك يدفع إلى السؤال: كيف نتوقع من واشنطن المنشغلة بنفسها أن تهتم بالشكل المطلوب من قوة عظمى بأحداث اليمن مثلاً؟ أو ما تتعرض له السعودية والإمارات ومياه الخليج العربي من اعتداءات حوثية مستمرة؟ أو ما يجري في العراق وسوريا ولبنان؟ إلى هذا، يصعب تفهم قبول واشنطن لروسيا والصين وسيطين في مفاوضات فيينا مع إيران، وهما في الواقع، وبحكم تحالفهما معها، طرف فيها.
غريب عجيب كيف تدير الإدارة الأميركية ظهرها للشرق الأوسط، خصوصاً العالم العربي وقضاياه، بحجة مواجهة الصين وروسيا وإيران، وتتعامل ببرودة غير مسبوقة مع حلفائها فيه، لا سيما دول الخليج، وتضع عراقيل أمام صفقات أسلحة في مواقف غامضة. إن واشنطن على بينة من أن بقعة توسع هؤلاء هي هذه المنطقة بالذات، حيث تعمل موسكو على تجذير وجود عسكري لها في استعادة لمناخات الحرب الباردة، وتسعى الصين عبر «مشروع الحزام والطريق» إلى كسب نفوذ سياسي عبر العلاقات الاقتصادية، وتجني إيران ثمار سياستها التوسعية التي أطلقتها منذ عقود بتفكيك دول وإحداث تغييرات ديموغرافية تكاد تغيّر خريطة الإقليم لصالحها. إيران ستتسبب في نزاعات مستدامة ما دامت بقيت سياستها على ما عليه، وهذا ما يُفهَم من إصرارها على فصل ملف تدخلاتها في المنطقة وبرنامجها للصواريخ الباليستية عن الملف النووي في محادثات فيينا. كل ذلك وواشنطن لا تزال مصرَّة حتى الساعة على اعتبار وكلاء إيران وأذرعها في الإقليم أطرافاً محلية منخرطة في مشاحنات أهلية.
بانتظار متغيرات، علها تتحقق في واشنطن، وتدفعها إلى الإقلاع عن مقاربة العلاقات الدولية بذهنية الحرب الباردة وما تلاها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لتعتمد مقاربات جديدة تأخذ في الاعتبار المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية في العالم. يبقى الاعتماد على النفس هو الدرس المستخلص خلال العقد ونصف العقد من السياسة الأميركية في المنطقة، وهو درس تعلمته روسيا وإيران وغيرهما، بحيث أخذت علماً بغياب واشنطن عن السمع... وانتفخت.