بقلم - يوسف الديني
«رؤية 2030» الطموحة ومنجزات مهندسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حديث العالم اليوم، وواقع تعيشه المنطقة يتجاوز التلقي المحلي إلى محاولة الاستنساخ في المنطقة والمتابعة في باقي دول العالم وبشكل أخذ طابعاً تصاعدياً مع كل تحقق لوعودها وإنجازاتها.
ربما كان أحد الأخطاء الكبيرة في تلقي الرؤية أو عدم قراءتها هو فصل جذورها الفكرية والثقافية والهوياتية عن مصادر لمعانها التكنولوجي والتقني والتحولات على مستوى بناء المؤسسات، لكن من يعود إلى النص الأصلي للرؤية والتصريحات المبكرة التي سعى ولي العهد إلى تكريسها عبر عدد من اللقاءات المفصلية يستطيع أن يقرأ جوانب فكرية أساسية ومنها مسألة تأسيس الاعتدال الديني والقطيعة الكاملة مع خطاب التطرف، تلك التصريحات كانت أحد ممكنات «رؤية 2030»، وتم طرح كل ما يقال عنها وحولها بوضوح وبلغة حاسمة ومباشرة ومسؤولة، ومنها مسألة مهمة تتصل بعلاقة الدينيّ بالسياسيّ، وإعادة التأكيد على شرعية الدولة ومشروعيتها المستمدة من الإسلام وثوابته القطعية، وفي هذا الملمح تحديداً كان لحديث ولي العهد أكبر التأثير على مستوى التلقي من الفاعلين الدينيين حول العالم، حيث تلقف كل المهتمين بالمسألة الدينية حديث الأمير محمد بابتهاج كبير وهو يعيد رسم ملامح الإسلام المعتدل، بعد أن سمى الأمور بأسمائها في أول ظهور له حين أعلن عن قطيعة مفصلية مع التطرف والإرهاب، وصولاً إلى تحقيق المعادلة الصفرية المرسخة للأمن والاستقرار والاستثمار في المواطن ومركزيته كرساميل سعودية جديدة.
هذا التلقي الإيجابي جاء من أهم مؤسسة دينية، حيث أصدرت هيئة كبار العلماء في السعودية عقب تصريحات ولي العهد، كما هي الحال مع الكثير من الشخصيات الدينية الاعتبارية، بياناً تثمّن فيه تصريحات ولي العهد حول الرؤية التحديثية، وهو ما أتاح للباحثين المهتمين بتتبع علاقة الدينيّ بالسياسيّ في تاريخنا المحليّ إعادة قراءة أطروحات ونظريات المسألة الدينية وتاريخ صيرورتها في السعودية منذ عهد الملك المؤسس، وتلك العلاقة المبنية على رعاية المصلحة بعيداً عن التفسيرات المؤدلجة والمبتسرة.
هذه المواءمة بين الخطاب الدينيّ الرسميّ وخطابات الظل، ومنها الإسلام السياسي الذي اختطف المشهد لعقود، وكاد، لولا الوعي التقدمي من القيادة السياسية منذ لحظة تأسيس المملكة بخطورته، يؤثر على تلك العلاقة،
المواسم الدينية، ومنها رمضان والحج، علامات دالة على انعكاس الجانب الفكري فيما يتعلق بالإصلاح وتأسيس الوسطية والاعتدال الديني. بدا ذلك على مستوى المواءمة بين حالة الترحيب بكل الزوار من حول العالم وإتاحة العمرة وزيارة المسجد النبوي طوال السنة وبتسهيلات غير مسبوقة مما أسهم في اختفاء كل خطابات وموجات الاستهداف لقبلة المسلمين؛ المملكة العربية السعودية التي شرفها الله بخدمة حجاج بيته الحرام، وكانت منذ لحظة التأسيس على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز، تضع سيادة شعيرة الحج وتحييدها عن أي تحيّزات دينية أو طائفية أو سياسية أو استثمار، فوق كل الاعتبارات.
أهم ما في الرؤية، رغم كل التحديات التي تسعى جاهدةً في تخطّيها وفق المراقبة الدائمة والتصحيح، أنها تجاوزت الفصل الذي كان سائداً في الكثير من تجارب البلدان العربية منذ لحظة النهضة حين كانت تفصل بين التنمية الاقتصادية ودوافعها الفكرية وقاعدتها السياسية والثقافية؛ فالرؤية الجديدة أطلقت عدداً من المشاريع التنموية التي لم تنبت كطروحات مالية أو تحليلات اقتصادية مفرغة من سياقاتها الفكرية، بل تمت إضافة «المعنى» إليها في سابقة سعودية، حيث كانت الخطط التنموية تعتمد على التمحور حول الاقتصاد وتسريع عجلته، مع البقاء في السياق التحديثي في إطاره المحافظ وحده الأدنى الذي لم يعد صالحاً للتكرار في ظل المعطيات الجديدة؛ من أجيال شابة وطموحات كبيرة. وفيما يتصل بالمواسم الدينية ومواءمتها مع الرؤية، لاحظنا اليوم كيف أن السعودية كلها، قيادة وشعباً، تحولت إلى ورشة مفتوحة وخلية نحل لهدف واحد هو خدمة زوار الحرمين الشريفين، حيث شرف خدمة الحجيج جزءٌ من الهوية الدينية والسياسية التي حوّلتها الرؤية إلى سياسات واستراتيجيات قابلة للقياس والمحاسبة.
الملاحظة الجوهرية اليوم التي تعد علامة فارقة لعلاقة «رؤية 2030» بالتسامح والاعتدال الديني والقطيعة مع الخطابات الراديكالية والعنفية وتراجعها لمربع المعارضة وخطابات الظل، أن رافعة الاعتدال جاءت على خلفية نجاحات رؤيوية تمس حياة الناس والاقتصاد وليست وليدة الإخفاقات الكبيرة على مستوى الداخل والارتباك على أو ضغوطات الخارج، حيث من السهل إجهاضها أو تجاوزها كما حدث في نماذج أخرى ببلدان عربية بمجرد غياب القوى السياسية أو تدهورها... على النقيض تماماً، الاعتدال إرادة سياسية مدفوعة بتحولات مجتمعية ومرهونة بنجاحات اقتصادية متصلة بحياة الرفاهية ومشدودة نحو المستقبل.
ومع ذلك لا يزال ملف تجديد الخطاب الديني ومتابعته رغم النجاحات والتحولات الهائلة وبشكل إيجابي، أمراً مهماً وملفاً حاسماً حتى في كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن الأهم هو تجديد أدوات القراءة والشرائح المستهدفة ومصادر التلقي عبر فتح كل الملفات العالقة والحساسة... وللحديث بقية.