بقلم: يوسف الديني
ربما كان أهم منجز لإصلاحات «رؤية 2030»، وإصرار مهندسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يتمثَّل في إصلاح مناهج التعليم والإصرار، ليس على مستوى مناهج المقررات ذات الصبغة الفكرية، أو المقررات المتصلة بالعلوم الدينية، وإنما السعي إلى إصلاح أشمل مرتبط بالتعليم المحايث لمتطلبات السوق والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، والشركات الكبرى المنفذة لبرامج الرؤية، ومن هنا كان الابتعاث النوعي ودعم المدارس الأهلية وفتح المجال لقبول المواطنين في المدارس ذات المناهج الدولية من دون قيد أو شرط، وتحسين مستوى المناهج الهجينة باللغتين، واستدخال تدريس المناهج التاريخية المتصلة بتاريخنا العظيم، بعد أن كانت المدارس الخاصة تدرس التاريخ الغربي، كل هذه التحولات ساهمت في خلق مناخ تعليمي مختلف التنافس فيه والبقاء للأصلح.
كان الإعلان الذي أطلقه وزير التعليم السعودي آنذاك أحمد العيسى، في ديسمبر 2018، بتوجيه من ولي العهد بتدشين مناهج الفلسفة والتفكير النقدي للمناهج الثانوية، حدثاً كبيراً، وهو ما انعكس مباشرة على التلقي الداخلي قبل الدولي، فمسألة إعادة موضوعة المحتوى الذي يتلقاه الطالب، من المفاهيم والتصورات الثقافية والدينية والتاريخية، وعلاقتها بإعداده لسوق العمل والمستقبل.
في 2020، قام معهد رصد السلام والتسامح الثقافي بنشر تقرير حول التحولات الإيجابية في إعادة موضعة التعليم ومراجعة المفاهيم الراديكالية، وهو ما وصفته جريدة «ديلي تلغراف» البريطانية، بقفزة في التعليم السعودي، وكان درة التاج في ذلك الوقت تصريح ولي العهد في مقابلة حصرية مع كون كافلين في الصحيفة ذاتها 2018، حيث قال له بصراحة: «نحن نعمل في السعودية اليوم على تقديم الإسلام المعتدل للعالم، وقمنا بالحرب على التطرف وسنستمر، لأن هدفنا بناء الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط»، وهو ما أكده لاحقاً في حوار مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية ومن دون مواربة: «لا يوجد لدينا احتكار للرأي الديني»، مشدداً على نقطة مهمة، وهو ما يكرره دائماً اليوم في أن الرؤية بمناهجها وأطروحاتها في الجانب الثقافي والفكري والهوياتي والاقتصادي، وصولاً للسياسات النفطية والدبلوماسية، تنبع من سيادة كاملة ومستقلة، وحسب عبارته «من أجل السعودية، وليس لاسترضاء أحد... نحن عائدون للإسلام النقي والمعتدل والمتسامح».
وليس من نافلة القول إنَّ هذه التحولات سبقتها مراحل قاتمة فيما يتصل بملف اختطاف التعليم، وارتهانه إلى الصراع الآيديولوجي ومحاولات فرض السلطة الرمزية، وهو ما لا يحتاج إلى تدليل أو شواهد أكثر من احتياجه إلى أدوات لفهم وتحليل آليات الصراع على حقل التعليم، والبحث عن هويته وبناه الداخلية.
في هذا السياق، يمكن الاستشهاد على طريقة «وشهد شاهد من أهلها»، بحديث وزير التعليم الحالي الدكتور أحمد العيسى، في كتابه الذي خطه قبل تسنم المنصب، عن وضعية التعليم السعودي.
والحال أن النجاحات الهائلة التي قادتها الرؤية فكرياً، وسعى الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، إلى تكريسها في مدة وجيزة وإلى عكسها على الواقع، تمثل في أمرين مهمين بنظري: إعادة الحقل الديني إلى مكانه الطبيعي، حسب نظرية بوردو الفرنسي في تقاطعات الحقول داخل الحراك للفاعلين في الدول، والأمر الثاني بناء الشخصية السعودية وفق سياق التفكير النقدي الذي ستأخذ تأثيرات إقراره في مناهج التعليم وتعزيز الشخصية السعودية بعض الوقت، لكن آثارها ماثلة في الظهور اليوم بشكل سريع، خصوصاً في المناخ العام الذي تعكسه الحوارات في منصات التواصل الاجتماعي.
التحدي الكبير اليوم في نظري، رغم كل الإيجابيات الضخمة، هو مأسسة الخطاب الديني بشكل يحافظ على التقاليد الراسخة للاعتدال والتخصص والمدرسية الثرية، التي عكستها حضارة الإسلام في أبهى عصورها والحيلولة دون تسلق المدعين وأنصاف العلماء، والألقاب والوظائف الدينية الطارئة، على الجسد الثقافي للحضارة الإسلامية، وأيضاً للمتانة والثقة الخاصة التي حظيت بها حلقات العلم في الحرمين الشريفين وعلماء السعودية في التاريخ المعاصر.
والتحدي الثاني هو مأسسة أطروحات الرؤية الفكرية والفلسفية والثقافية، وتوثيق منجازاتها بلغة الأرقام والقصص المستمدة من الواقع، بمعنى آخر كتابة تاريخ تسجيلي لها، ونحن نعيشها كواقع يكبر، وكحلم كبير للمستقبل طموحه عنان السماء!