بقلم - يوسف الديني
الرموز والرمزيات تفسَّر بما وراءها، لكنها في عالم السياسة تعكس الثوابت والتقاليد السياسية والعراقة الممتدة، واستحضار «الهويّة»، وهذا ما بدا واضحاً في العقلانية السياسية والتصرف الواعي بتغيير مكان انعقاد المؤتمر الصحفي بين وزير الخارجية السعودي مع نظيره الإيراني، على الرغم من محاولات وسائل إعلام إيرانية ادعاء الخلل الفني، لكنه بدا واضحاً للعقلاء والمحللين أن ثمة يقظة سعودية في مسألة السيادة والهويّة لا تعبّر عن تصرفات فردية، وإنما نهج حازم مستمد من رؤية عميقة أسسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ويترجمها بشكل عملي مهندس الرؤية ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الذي نقل مسألة الرمزيات وعلاقتها بالسيادة من مجال البروتوكولات والدبلوماسية إلى مجال الهويّة السياسية والمرتكزات المستهدفة حتى من الرؤية الطموحة التي حولها برامج ومبادرات تهتم بالتفاصيل الصغيرة، وكلنا يعيش اليوم على مستوى العاملين في مؤسسات الدولة والقطاع العام والخاص والثالث، هذا الحضور الطاغي للتفاصيل الصغيرة المتصلة بالهويّة بعيداً عن كل استهدافات الصورة النمطية، وإنما هو تاريخ استعادي وهويّاتي أعاد للتجربة السعودية الضاربة بجذورها في القِدَم لتتقدم في مدارج المستقبل حاملة ذلك الامتداد العميق والعراقة الممتدة.
في الفلسفة السياسية الرمزيات واتصالها بالهويّة تساهم بشكل أساسي ومباشر في تشكلات الوعي وتمثل الجماعات والأنساق البشرية لكينونتها، وهي تسعى في إجابة السؤال: من «نحن»؟، بعيداً من أقواس «الآخر» وتحيّزاته وأوهامه، فضلاً عن مشاريع «الممانعة» والاستهداف لمشاريع سياسية مضادة.
اليوم هذا الحضور الطاغي لمقاربة ولي العهد لملف «الرؤية 2030» بمشاريعها ومبادراتها ومستهدفاتها ونجاحاتها التي لا يكاد يمر شهر إلا ونسمع عن أرقام جديدة ومشاريع وطموحات أكبر ورفع لسقف التوقعات بشكل دائم، كل هذا أصبح لافتاً للنظر ليس على مستوى المنطقة، وإنما «العالم» الذي بدأ يراجع حساباته الضيقة لأن الشمس لا تُغطى بغربال كما تقول العرب؛ فـ«الرؤية» اليوم تجوب العالم بشبابها والمؤمنين بها من كل القطاعات، يشرحونها ويقيمون الشراكات لمشاريعها في كل المجالات، وما زيارة ولي العهد اليوم إلى باريس إلا تتويج لهذا المستوى العالمي من نجاحات «الرؤية» التي تحولت أنموذجاً وربما تحين لحظة تصديرها واستنساخها كمشروع طموح للمستقبل وكبديل مضاد لمشاريع تصدير الثورات والميليشيات والمشاريع المقوضة للسيادة والاستقرار.
هذا المستوى من الحضور للمشروع السعودي اليوم لا يمكن أن تخطئه العين ويمكن أن تقرأ سطور الإعجاب وعبارات الاعتراف حتى في التقارير والأبحاث التي تحاول السيطرة على اندهاشها بـ«لكن».
نقرأ اليوم في «اللوموند» الفرنسية المحسوبة على اليسار التقدمي المثقف عبارة كاشفة: «لا يمكن اليوم فعل شيء من دون السعوديين؛ ولذلك من المهم أن نرى هذه القوة الجديدة، وتلك هي الواقعية السياسية»!
وما تُجمِله «اللوموند» خصصت له صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية تحقيقاً مطولاً مذيلاً بالصورة «الرمزية» ذائعة الصيت لولي العهد وهو يتوشح «البشت»، وعلى طريقة البوب آرت كانت العباءة متداخلة مع العَلم السعودي في رمزية للسيادة والحضور، وتحدثت تحت عنوان عريض عن السيادة السعودية الجديدة.
وبحسب الصحيفة، فإن «الرؤية» حدث استراتيجي في السعودية ومشروع بدأ ليعيد تشكيل البلاد وينقلها إلى مصاف القوة العالمية التي لا يستهان بها، لا في حجم أو قوة جيشها، بل في مدى انتشارها في قطاعات الثقافة والرياضة والترفيه والتكنولوجيا والتمويل.
كما وصفت ولي العهد بـ«المنقذ» لبلاده من التحديات الاقتصادية الكبرى، من خلال تحويل اقتصادها وسيادتها قوة عالمية محورية لا يمكن أن تخضع للقوى الكبرى، هو في نهاية المطاف كما يقول التحقيق استطاع فصل بلاده عن إدمان النفط وتدشين رؤية تسعى إلى تدشين قنوات دخل وإيرادات مستدامة لمستقبل خالٍ من الكربون التي من المتوقع أن تتحقق أسرع مما توقعه الجميع!
وتضيف تأثير السعودية الجديدة يشمل قطاعات متعددة، واللافت أنه يجمع بين الحفاظ على تراثها وتقاليدها مع رؤية طموحة للمستقبل، من دون البحث عن صراعات أو ضغائن أو تدخلات في شؤون الآخرين... وولي عهدها مهتم بانعكاس رؤيته على سكان بلاده، ولا سيما الأجيال الشابة.
السعودية الجديدة التي تمثلها الرمزيات السعودية وتعالقها مع الهوية والسيادة تقف في قلب العقلانية السياسية في عالم مضطرب؛ حيث صوت الاعتدال يتقدم على كل صوت، والاستقرار السياسي هو منطق الدولة في عالم يعيش صراعات «اللايقين» والانتهازية، تسعى المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين إلى ذلك دون افتعال أو تكلف أو أجندات خفية، لكن بحزم ووضوح ووضع للنقاط على الحروف.
الرمزية التي نفخر بها اليوم... أن العالم في السعودية بحجّاجه، وأنها في العالم في الوقت ذاته برؤيتها ونجاحاتها ووعودها لمستقبل أفضل!