تطوّر الفكر البشري، علوماً وأفكاراً، مفاهيم ومبادئ، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور البشر وعلاقاتهم وطبيعة التحديات التي يعيشونها والصراعات التي يخوضونها، وأخذ ذلك التطور مساراتٍ هي التعبير الحقيقي عن طبيعة الحياة ومنطق التاريخ.
في الأديان والآيديولوجيات كما في الفلسفات والنظريات الكبرى، ثمة أفكارٌ ومفاهيم وخطابات ترسم أولوياتٍ معينة يحكمها الزمان والمكان وطبيعة المتغيرات وسقف الطموحات، وهي التي تحكم علاقات الأفراد والمجتمعات ومصالح الشعوب والأمم ونفوذ الدول والإمبراطوريات، وهي بطبيعتها أفكار ومفاهيم وخطابات متغيرة متجددة، فالتطور هو الثابت الوحيد لها، والتطور معنى محايد وليس حكماً معياراً، فثمة تطور إيجابي وآخر سلبي.
التطوّر الإيجابي هو الأبرز عند استخدام المصطلح، ولكن التطور السلبي حاضرٌ في كل تواريخ الشعوب والأمم والدول، فمن المعلوم أن لكل الحضارات نقطة انطلاقٍ تستمر حتى تصل إلى ذروتها ثم تبدأ في الانحدار مؤذنة بظهور حضارة أخرى، وهكذا دواليك على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.
جدالات الأفكار والمفاهيم والخطابات هي جدالات غنية وثرية ومنتجة، والغفلة عنها أو تجاهلها أو التقليل من شأنها مسارٌ انحداري في كل التواريخ الحضارية التي عرفها البشر، فقد تنتصر الأمم والدول عسكرياً، ولكنها تصبح رخوة حين تفقد الظهير الفكري والفلسفي القوي والحامي، وأقرب الأمثلة على ذلك في التاريخ الإسلامي ظهور التتار وغزواتهم العسكرية الناجحة التي اجتاحت آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، ولكنها لم تلبث أن ذابت وهي المنتصرة عسكرياً في ثقافة المجتمعات والشعوب والأمم المهزومة عسكرياً، ولكنها الأقوى فكرياً وفلسفياً، والأمثلة كثيرة ومتعددة.
حاول كاتب هذه السطور منذ سنواتٍ رصد «التفاهة الممنهجة» أي التفاهة التي يتم التأصيل لها عملياً وتدفع باتجاهها تطورات البشر ووسائل تفكيرهم وسبل رفاههم وطرق تأثيرهم ويمكن رصدها في المجالات كافة، وعلى كثير من المستويات.
سياسيا، وباعتبار أميركا هي الأمة والدولة الأكثر تحضراً رصد العالم قبل سنواتٍ ظهور الرئيس السابق دونالد ترمب، باعتباره شاهداً على التفاهة التي يمكن أن يصل إليها البشر حين ينتخبون رئيساً بمثل هذه المواصفات، وربما كان في ذلك شيءٌ من الحقيقة، ولكنها حقيقة ناقصة، فلئن كان ترمب يمثل نوعاً من التفاهة التقليدية، فإنه كان ردة فعلٍ على التفاهة الأخطر والأبلغ أثراً والأعمق تأثيراً وهي في التيار المقابل، في تيار اليسار الليبرالي المهيمن في الحزب الديمقراطي الأميركي وفي الأكاديميات الأميركية، وفي جميع مجالات الحياة والفنون هناك.
باراك أوباما هو الشخص الذي يقابل ترمب وبنظرة سريعة يمكن بسهولة اكتشاف أن أوباما يمتلك مواهب فكرية وخطابية لا يمتلكها ترمب، ولكن أوباما هو الذي يمثل «التفاهة الممنهجة» وليس ترمب، أوباما اليساري الليبرالي صاحب نظرية الانسحاب من العالم والخضوع لخصوم أميركا والتخلي عن حلفائها هو الذي دق الأسافين في نعش الحضارة الأميركية، وليس ترمب المحافظ التقليدي، وإن بدا خصماً شرساً يجيد مناطحة اليسار الليبرالي.
يمكن للمتابع للشأن الأميركي أن يكتشف بسهولة حجم الغضب الذي تملّك اليسار الليبرالي في أميركا، وحجم سخط مؤسساتٍ كبرى داخل أميركا على ترمب وقد كان المشهد ساخناً في الانتخابات الأميركية الأخيرة التي سقط فيها لصالح بايدن، ولكنّ المشهد اليوم يزداد سخونة وتطرفاً في التحضير للانتخابات القادمة، والملاحقات القانونية لترمب من «تهم الاغتصاب» القديمة إلى «وثائق ترمب» تشبه مسرحية هزلية يتفرّج عليها العالم ويأخذ دروساً في كيفية ضرب الدول الكبرى من داخلها وبمؤسساتها وقوانينها وآلياتها، وهي التي لطالما أبهرت العالم، وهذا مؤشرٌ ضمن مؤشراتٍ عديدة على انحدار القوة الأميركية أو «الإمبراطورية الأميركية» كما يسميها بعض الكتاب والمفكرين.
انسحابية أميركا الأوبامية كانت خطيرة وعندما جاءت الإدارة التي يقودها أتباعه وأتباع تياره السياسي سارت على النهج نفسه، وما انسحابها الكارثي من أفغانستان سوى شاهدٍ، ولكنّها أضافت لذلك تخبطاً بسبب الرغبة في إظهار القوة وما موقفها المتشنج والغريب من الحرب الروسية الأوكرانية الذي كادت من خلاله أن تطيح النظام الدولي وبالعولمة، إلا تأكيدٌ لهذا السياق، وما موقفها تجاه «تايوان» إلا استمرارٌ في المسار نفسه.
هذه قراءة تسعى أن تكون عقلانية واقعية قدر المستطاع، وهي تختلف جذرياً عن طروحاتٍ عربية استمرت لعقودٍ في شتم أميركا والإمبريالية والشيطان الأكبر بحسب منطلقات مطلقيها من يساريين وقوميين وإسلامويين، فتلمس حراك التاريخ ورصد تطوراته ومحاولة تفهم تقلباته تختلف تمام الاختلاف عن الشتائم الآيديولوجية وشعاراتها.
حين جاءت لحظة ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» قبل أكثر من عقدٍ من الزمان كانت إدارة أوباما حينها تسابق الشباب الغاضب في الشوارع والميادين وكانت تحرّكه من خلف ستارٍ جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني في إدانة الدول العربية ومحاولات إسقاطها والقضاء المبرم عليها، وكان الطرفان يسعيان جهدهما لخلق «استقرار الفوضى» في منطقة الشرق الأوسط، ولكن الدول العربية القائدة والرائدة بقيادة السعودية رفضت العبث ووقفت وقفة تاريخية لا تنسى.
من نتائج سياسات اليسار الليبرالي الأميركي أنه خسر ثقة كثير من الحلفاء، وخسارة الثقة بين الدول تجعل من الصعوبة بمكانٍ استعادتها على الأقل بشكل سريعٍ، وحلفاء أميركا الذين خسرت ثقتهم ليسوا في الشرق الأوسط فحسب، بل هم منتشرون حول العالم.
في لحظات سقوط وصعود الإمبراطوريات يتكثف التاريخ وتصبح رمزية أحداثه ومواقفه قابلة للرصد وسهلة التحليل، وفي الحرب الروسية الأوكرانية - وهي لم تتجاوز العامين بعد - يمكن للمتابع أن يكتشف بسهولة أن أهداف أميركا المعلنة بداية الحرب لم يتحقق منها شيء ذو بالٍ بينما حققت روسيا غالب أهدافها، وأن التصعيد الأميركي الغريب والصارخ تراجع، وأن الإدارة الأميركية بدأت تلملم شتات أمرها وترسل مندوبيها ومسؤوليها حول العالم لتصحيح المسارات وتوضيح الأخطاء بما يشبه الاعتذار، ووزير خارجية أميركا «بلينكن» يزور الصين هذه الأيام لتجنب «الحسابات الخاطئة».
أخيراً، فنشر الديمقراطية شعارٌ أميركي قديمٌ، ولكنه مع اليسار الليبرالي تحوّل لما يشبه «التقديس» لا يمكن لأحدٍ مناقشته، وقد ثبت عربياً على الأقل أن الدول التي قدّمت «التنمية» في الأولوية على «الديمقراطية» كانت محقة ونجحت ووضعت أقدامها على طريق الحاضر الزاهر والمستقبل المشرق، مع التأكيد أن الديمقراطية لا تعني «العدالة» ولا «الحرية»، فتلك مفاهيم أكبر وأوسع.