بقلم - د. محمود خليل
"بالسلام إحنا بدينا بالسلام.. ردت الدنيا علينا بالسلام".. كل من عاصر السنوات الأخيرة من السبعينات وبداية الثمانينات يحفظ هذه الكلمات جيداً، من كثرة ما كانت تبث في الراديو والتليفزيون.
وهي من أغنية شدت بها "أم كلثوم" أواخر الخمسينات، عقب العدوان الثلاثي على مصر على الأرجح، من كلمات "بيرم التونسي" وألحان محمد الموجي، وكانت ممنوعة من الإذاعة بسبب اشتعال حلقات الصراع العربي الإسرائيلي، ثم تم استدعاؤها بشكل عاجل عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، لتصبح الأغنية "نمبر وان" في الراديو والتليفزيون.
وكانت أم كلثوم عليها رحمة الله قد توفيت عام 1975.داخل أحياء مصر القديمة وفي قرى مصر ونجوعها كانت الكلمات تدوي والناس تسمع، ولا تجد بأساً في سلام يؤدي إلى استرداد الأرض، أو تحقيق الرخاء كما تعد الحكومة، وإن تشككوا في التزام الطرف الآخر بالسلام، وهو الذي بنى استراتيجيته على التوسع الاستعماري، كما لم يثقوا في وعود الحكومة، بسبب تجربتهم المحبطة معها في "لحس كلامها" بمجرد تمرير الموقف الذي تريد تمريره.
لم يكن المواطن العادي الذي دأب على العيش مع من حوله على "طبق واحد" يريد أكثر من "الستر"، أن يؤمن قوت يومه، ويعيش آمناً في سربه، معافى في بدنه، يجد الدواء الذي يخفف آلامه إذا مرض.
والأحاديث التي تسمعها عن أفراد هذا الشعب باتوا يميلون إلى الاستهلاك مع انطلاق سياسة الانفتاح، وقتلتهم التطلعات وغير ذلك ليست دقيقة إلى حد كبير، فغالبية الناس لم تكن تسعى إلا لما يسترها، وكان من يحقق الستر بالمعنى الذي أوضحته يغرق في نعمة الرضا، ولا يشغله شيئاً عنها، حتى ولو كان الاهتمام بالشأن العام.
فالناس كانت وما زالت على استعداد لترك أهل السياسة في حالهم، ما دامت حياتهم "مستورة" بالحد الأدنى المطلوب.
التطلع ولد وتربى وعاش في حضن طبقة الحكم أواخر السبعينات والثمانينات وما بعدها، وبدأت خريطة الحياة في مصر تتشكل تبعاً لتطلعات أفراد هذه الطبقة، التي ضمت متنفذين، ورجال أعمال، وسياسيين، ونجوم فن ورياضة ومجتمع، وأثرياء بالوراثة.
معادلة الأيدي الممتدة في طبق واحد والتي عاشها المصريون سنين عددا لم تعد تُعجب أفراد الطبقة الجديدة، وبدأوا يفكرون في المعادلة البديلة، المتمثلة في "الأطباق المتنوعة" التي تستأثر بها يد واحدة، أو أيد مخصوصة محدودة، هي أيدي طبقة الحكم ومن يدور في فلكها.في المقابل بدأ طبق الفقراء الذي تمتد إليه العديد من الأيدي يفرغ شيئاً فشيئاً، نتيجة الغلاء والعجز عن الشراء.
وأخذ الكثيرون من أبناء الأحياء الفقيرة في الريف والحضر يبحثون عن حلول لتحسين دخولهم. احترف بعضهم العديد من الحرف التي بدأت تدر على بعضهم مكاسب نتيجة العمل في المشروعات الجديدة، التي ارتبطت باستدعاء التجربة الاسماعيلية "تجربة الخديوي اسماعيل" أواخر عصر السادات، وخلال فترات من عصر مبارك، أما المتعلمون من أبناء الفقراء فوجدوا الحل في العمل لدى دول الخليج.بدأ شكل البنايات يختلف، فبعد الغرف المتجاورة، والعمائر القصيرة التي كانت تشكل خريطة السكن في مصر، إلى جوار المباني والقصور والفيلات الأثرية الموروثة عن عصور سابقة، ظهرت الأبراج السكنية، ومن بعدها الكومباوندات، التي تضم أبراجاً متطاولة، ثم الكومباوندات التي تضم فيلات. تستطيع أن تقول بأن مصر تم فكها على مصرين (قديمة وجديدة).
كل شىء في مصر أصبح فيه القديم والجديد، بما في ذلك طبق الطعام الواحد، الذي تفكك إلى عدة أطباق، وأصبحت هناك أطباق متنوعة متخمة، وأخرى فقيرة شحيحة، تتخطف منها الأيدي التي كانت بالأمس تطعم بعضها بعضا!كان ذلك أول حصاد "الرخاء" المربوط "بوعد السلام".