التعليم و«آلة التسليم»

التعليم و«آلة التسليم»

التعليم و«آلة التسليم»

 العرب اليوم -

التعليم و«آلة التسليم»

بقلم: د. محمود خليل

يُعد التعليم الأداة الأخطر في بناء وترسيخ العقل النقدي، بما يمثله من مقدمة أساسية للنهضة والتحديث داخل المجتمعات. قبل أن يخطو محمد علي خطواته الأولى في تدشين تجربة التعليم الحديث في مصر، كان النظام التعليمي يعتمد بصورة أساسية على الكتاتيب -على مستوى التعليم الأولى- وعلى جامعة الأزهر كحاضنة للتعليم الديني، بالإضافة إلى بعض العلوم الأخرى التي تخدم العلوم الشرعية مثل الحساب لخدمة فرع المواريث في الفقه الإسلامي.

ثمة اتفاق على أن التعليم في العصر المملوكي كان يعتمد على «الحفظ والاسترجاع». فداخل الكتاتيب كان حفظ القرآن الكريم وتسميعه هو الأساس، بالإضافة إلى بعض القواعد الأولية للقراءة والحساب، ولم يكن ثمة اهتمام بفهم المعاني الجليلة لآيات الذكر الحكيم، فالمهم أن يحفظ الطفل. ففهم المعاني يجده الدارس بعد ذلك في الأزهر إذا التحق به.

الفكرة الراسخة عن التعليم قبل «محمد علي» أنّه مثل آلة من آلات إنتاج وتكريس «العقل التسليمي». فالأصل دائماً هو الحفظ، حفظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والمتون والحواشي، ثم تسميعها وتكرارها، ولم تكن ثمة جهود تُبذل لتربية العقل النقدي القادر على الفحص والدرس والتحليل ثم القبول أو الرفض. هذه الفكرة صحيحة إلى حد كبير، لكن ليس على إطلاقها، لأن من الصعوبة بمكان أن نصف بـ«التسليم» العقليات الأزهرية التي تعددت ثوراتها ضد المماليك، وقادت المقاومة الشعبية ضد الحملة الفرنسية، ثم انخرطت في ثورة شعبية أجلست خلالها «محمد علي» على كرسي الحكم رغماً عن أنف السلطان العثماني.

مؤكد أن من بين الجيل الذي عاصر الأحداث في مصر أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر عقليات نقدية لم يعجبها الحال التي وصل إليها المجتمع، واجتهدت في المقاومة والتغيير، ونبهتها الحملة الفرنسية إلى حالة التخلف العلمي الذي نعيشه، وبإمكانك أن تراجع، على سبيل المثال، سيرة الشيخ حسن العطار، كنموذج على العقلية الأزهرية المتنورة التي اهتمت بعلوم الحملة ومدت جسور الصلة مع علمائها وتعلمت منهم وعلمتهم، وكان للرجل رؤية نقدية مكتملة المعالم توافق معه فيها المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي حول الأوضاع الواجب تغييرها في المجتمع.

في المجمل كان أصحاب العقل النقدي في مصر القرن التاسع عشر آحاداً من البشر، أما المجموع فقد غلب عليه التسليم في كل شيء، التسليم للمسيطرين باسم سلطان الأرض من مماليك وترك، والتسليم للمشايخ الحفظة وما رسخوه في عقولهم وأفئدتهم من أفكار لا تقبل النقد أو التمحيص، دون التفات إلى بعض الأصوات التي تكشف التناقض بين أفكار المشايخ والنص الأصلي للإسلام المتمثل في القرآن الكريم.

المشهد الظاهري للمجموع في مصر القرن التاسع عشر -وما سبقه أيضاً- كان تسليمياً بشكل واضح كما صورته كتب التاريخ، لكن بإمكانك لو دققت النظر في بعض التفاصيل أن تلاحظ أن الأهالي كان يسلمون في الظاهر وينقدون نقداً ساخراً مراً في الخفاء، تستطيع أن تستدل على ذلك من النكات التي أطلقها المصريون على حكامهم بدءاً من عصر المماليك وحتى نهايات القرن التاسع عشر (راجع كتاب الفاشوش في حكم قراقوش)، وكان المشايخ أيضاً هدفاً للسخرية في بعض النكات.

المشهد التعليمي في مصر ما قبل محمد علي اعتمد على الحفظ أكثر من الفهم، ورسخ لفكرة التسليم أكثر من النقد، لكن ذلك لا يمنع من ظهور آحاد من البشر نوهوا بحروف العلة في جملة الحياة في مصر، لكنهم في المجمل لم يشكلوا تياراً قادراً على التغيير والتطوير، أما الأهالي الغارقون في النقد الساخر بالنكتة، فقد كانوا يسمعون النكتة وهم يدخنون الشبك وما أطعموه للشبك، فيقهقهون، ويخلدون بعدها إلى النوم.

 

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التعليم و«آلة التسليم» التعليم و«آلة التسليم»



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة

GMT 17:33 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

حرب غزة ومواجهة ايران محطات حاسمة في مستقبل نتنياهو

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab