بقلم: د. محمود خليل
تذكر الشيخ الثمانينى مآسى الحياة وضغوطها عليه وعلى ولده المتزوج وحفيده، فتسللت من نفسه المتعبة خيوط الحزن واليأس والضجر، لكن سرعان ما أدركته لحظة استفاقة هتف معها قائلاً: «الحمد لله.. لا اعتراض على قضائه».
استرجع من ذاكرته قصة سمعها عن الولى القطب أبى العباس المرسى: «فقد مر العارف بالله بأناس يزدحمون على دكان خباز فى سنة الغلاء فرقّ قلبه لهم، ثم وقع فى نفسه أنه لو كان معى دراهم لآثرت بها هؤلاء، فأحس بثقل فى جيبه فأدخل فيه يده فوجد فيه جملة من الدراهم فأعطاها للخباز وأخذ بها خبزاً فرّقه، فلما انصرف وجد الخباز الدراهم زائفة فاستغاث عليه وأمسكه. فعلم أن ما وقع فى نفسه من الرقة اعتراض على قضاء الله فاستغفر وتاب وسرعان ما تبين للخباز أن الدراهم صحيحة».
قصة عجيبة تلك التى يرويها نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال روايته «يوم قتل الزعيم». فالتوجع بمأساة الذات أو مآسى الآخرين وتمنى زوالها أحياناً ما يوقع الإنسان فى شرك الاعتراض على قضاء الله وقدره. لو أخذت المسألة على عواهنها فقد تمتعض بعض الشىء وتسأل كيف هذا؟، لكنك لو تأملتها بقدر من العمق فقد تجد فيها نوعاً من المنطق.
الله تعالى قد يضرب البشر بالمشكلات على سبيل الابتلاء: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ». الأزمة التى ترتدى ثوب الابتلاء هى فى الأغلب جزئية، وليست شاملة (تأمل كلمة «بشىء»). فالله تعالى يبتلى كل إنسان على قدر احتماله، لأن حكمة الابتلاء هنا تتمثل فى اختبار قدرة الإنسان على «الصبر»، والنتيجة التى تترتب على التجربة فى هذه الحالة تتحدد فى تنقية وتصفية النفس الإنسانية، لتستوعب الحقيقة الإيمانية التى تقول إن كل شىء فى هذا الوجود بيد خالق الوجود.
فى المقابل قد تضرب الأزمات حياة الناس على سبيل النتيجة المترتبة على أعمال وممارسات معينة أتوها أو وقعوا فيها، فى هذه الحالة تبدو الأمور طبيعية ومنطقية تماماً، لأن النتيجة دائماً من جنس العمل. يقول الله تعالى فى كتابه الكريم: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ». ويقول: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
المشكلات أو الأزمات فرصة للتأمل والبحث عن مغزاها، وهل تقع فى دائرة الابتلاء أم فى مربع «النتيجة التى لها مقدمات»؟. الصبر هو الجوهرة الثمينة للابتلاء فى حالة المشكلات المحتملة، فى حين أن الأزمات التى تجعل الأرض تميد من تحت أقدام الإنسان تستوجب منه البحث وراء أسبابها فى أدائه وممارساته ويجتهد فى علاجها.
المشكلات تتسكع فى طريق البشر جميعاً، وأساس العبور منها أو تجاوزها يتعلق بالصبر، أما الأزمات الكبرى فتجد أسبابها عند البشر.. فارق كبير بين مفهوم المشكلة ومفهوم الأزمة.