بقلم - خالد منتصر
عندما تختلط دموع الشفقة على بنتين تهجران الوطن فى رحلة يكتنفها الموت بدموع الحماس، وواحدة من البنتين تكسب فى الأولمبياد، فأنت أمام فيلم يهزك من الداخل بإيقاع لاهث، فيلم إنسانى وأرى رغم هجوم البعض عليه بأنه لم يتعرّض للقضية السورية، أرى إنسانيته وبعده عن الإغراق فى جدل ولغط السياسة سر تميزه وروعته.
يسرا ماردينى السباحة التى انتصرت لوطنها التائه ولأبيها بطل السباحة الذى لم يستكمل طريق البطولة نتيجة تجنيده، انتصرت لأختها سارة، السباحة التى لم تتجاوز العادى إلى مستوى البطولة، انتصرت للاجئة الإريترية، التى فشلت فى الهرب إلى إنجلترا وعادت إلى بلادها، حتى مدربها الألمانى الذى لم يصل إلى البطولة، لأنه لم يسعَ يوماً للفوز.
ولكن لتجنّب الخسارة فقط، رحلة لملمة كل تلك الجراح النازفة والإحباطات المزمنة هى قصة هذا الفيلم الساحر الآسر بكل عناصره الفنية التى تلمس شغاف القلب والروح قبل العقل، رحلة الهروب فى هذا البحر الهادر، محاولة الهروب من قسوة برد الحدود فى اليونان وصربيا والمجر حتى الوصول إلى ألمانيا، وشراسة أنياب الكلاب البوليسية، وشراهة المهرّبين وجشعهم.. إلخ.
ليست قصة لاجئتين سوريتين فقط قدمتهما المخرجة سالى الحسينى، وإنما قصة مأساة اللاجئين بشكل عام، أكثر من 2 مليون لاجئ سورى، وأكثر من 30 مليون لاجئ من كل بلاد العالم، لخّصت مأساتهم «يسرا وسارة الماردينى»، وإذا كانت مهارة السباحة قد أنقذتهما من مصير الموت غرقاً فى البحر، فقد ابتلع البحر الآلاف ممن تاهوا فى البحر وفشلوا فى اجتياز أى سور، ماتوا وهم يطفون جثثاً تأكل أشلاءهم أسماك القرش وما تبقى من هياكلهم حط على الشاطئ الآخر البعيد يحمل رسالة إلى العالم ها نحن ضحايا صراعاتكم وحروبكم وبيزنس أسلحتكم.
استطاعت «يسرا» الوصول إلى أولمبياد ريو باسم منتخب اللاجئين، وكانت تتمنى تمثيل بلدها سوريا ورفع علم وطنها الذى مزقته الحروب والطائفية، لكنها لم تستطع، فى رحلة الهروب ألقت بميدالياتها فى البحر، ثم ألقت بنفسها هى وشقيقتها لتخفيف الحمولة عن قارب الموت، تحرّش بها ممثل السلطة فى بلدها، وحاول المهرّب اغتصابها، تلك الجروح لم تندمل وتركت ندبات فى الروح، الفيلم على المستوى الفنى من إخراج وتصوير وإضاءة وتمثيل رائع.
وأعجبتنى اللقطات الواسعة الرحبة للقارب فى البحر تتقاذفه الأمواج وكأنه لعبة، وأيضاً صفوف الكرافانات التى يبيت فيها اللاجئون فى ألمانيا التى استقبلتهم وقتها بترحاب، وكانت الدولة الوحيدة التى احتضنتهم فى تلك الظروف الطاحنة والمأساوية.
فيلم يستحق المشاهدة ويستحق الاحتفاء.
وجبة فنية دسمة وممتعة أنصحكم أن تشاركونى إياها.