بقلم - خالد منتصر
ليس أجمل من اختيار كلمات صلاح عيسى في وصف تجربة أحمد فؤاد نجم، ألفة مبدعي المقال الصحفي يكتب عن واحد من أهم مبدعي الشعر العامي، هذا الاقتباس من عيسى: بعد هزيمة 67 تتالت البلاغات الشعرية.. طارت على أشعة الشمس.. وتخللت نسمات الهواء، لتستنشقها صدورنا المصدومة الذاهلة، الأشبه بفرخة مذبوحة ترفرف بجناحيها من حلاوة الروح فتعيد إلينا الأمل، بأن الهزيمة ليست نهاية التاريخ، وأن الانتصار ممكن.
وأن «الأعداء داخل جلودنا كما أنهم خارج حدودنا، وتتدافع جموعنا إلى حجرته الضيقة في ذلك المنزل القديم في تلك الحارة الضيقة من حواري الوطن فنذهل حين نراه شاعراً كهلاً.. نحيل القامة.. كحيان.. ومغن ضرير غلبان.. وغرفة ناحلة لا تضم سوى كنبتين من الخشب.. ومقعد بثلاث قوائم ورف ومرآة مكسورة».
كان آخر ما يمكن أن نتصوره، هو أن يكون هذا الشاعر الصعلوك هو صوت الغضب القادم، وأن تكون تلك الغرفة الفقيرة العاطلة عن الجمال والجلال، هي مجمع أحزاننا المستجدة وبئر أحلامنا العميقة.. مع أنها – مكاناً وسكناً – تكاد تخلو من كل المؤهلات التقليدية التي تجعلها صالحة لذلك، فلا "تاريخ نضالي" ولا "عذاب سيزيفي" ولا "غربة وجودية".. بل مجرد غناء عذب، شجي، بسيط وصوت واثق قوي، وسخرية تفجر الضحكات والدموع.. وجسارة لا تخاف ولا تتردد ولا تحسب، لأنها لا تملك ما تخاف عليه، ولا تسعى لكى تملك ما قد يجعلها تخاف عليه.
في تلك السنة التي كان عارها يجللنا، وهزيمتها تتوجنا بأكاليل الشوك، ومذاقها في حلوقنا كطعم الخل، تخلق الظلام فولد "أحمد فؤاد نجم" بين أطلال الهزيمة.. ليكون هو ذاته "أحمد الزعتر".. الذي وصفه "محمود درويش" بأنه "أحمد العادي".. المولود من حجر وزعتر.. القائل دائماً: لا.. جلده عباءة كل فلاح سيأتي من حقول التبغ كي يلغي العواصم ويقول: لا.. جسده بيان القادمين من الصناعات الخفيفة والتردد والملاحم نحو اقتحام المرحلة ليقول: لا.. ويده تحيات الزهور.. وقنبلة مرفوعة كالواجب اليومي ضد المرحلة.. لتقول: لا"!
فيما بعد كنت أتأمل ظاهرة "نجم" الإنسانية بشيء من الدهشة الممزوجة بالإعجاب البالغ.. وكنت أتساءل: كيف حدثت هذه المعجزة؟ من الذي حوّل هذا الكائن الجذاب خفيف الروح المؤهل تماماً لكي يكون نصاباً دولياً يبيع شعره في أسواق النخاسة والموالد وسراديب القصور، إلى يد مرفوعة بالواجب اليومي ضد المرحلة؟!
واكتشفت وأنا أتأمل مشاعري تجاه "نجم" الإنسان، و"نجم" الشاعر، و"نجم الفاجومي" العنيد، العصي على الإفساد، أنني أمام ابن البلد الحقيقي، الذي أتمنى أن أكونه، وأن جلده هو فعلاً عباءة الفلاحين القادمين من حقول القمح، وبيان القادمين من الصناعات الخفيفة ليقوموا بالواجب اليومي ضد الهزيمة، وأن هذا هو الشعب الذي أحببته وعشقته، وعجزت عن التعبير عن ذلك كما يجب، وأنه يغني من قلبي، ويستلهم شعره من روحي، وأن كل ما مضي من عمره كان تهيئة لتلك اللحظة التي يغمر فيها الطوفان كل شيء، فإذا روح الشعب القوية، هي سفينة نوح التي تنقذ أرواحنا وجنسنا ووطننا وأمتنا من الانهيار، تهاوت الأحلام الأوهام وسقطت "المؤسسة" بكل زخارفها اللفظية وطقوسها الشكلية، وعنترياتها الكلامية، وآن الأوان لأن يغني ابن الشعب أحمد "العادي" فؤاد نجم.