بقلم -إميل أمين
A
A
تأتي زيارة الوفد المصري إلى العاصمة الليبية طرابلس قبل بضعة أيام، بهدف ترتيب إعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس، لتكرس انتصاراً حقيقياً للدبلوماسية المصرية بمدرستها التقليدية التي تغلب التفاهمات ولغة الحوار، وتتجنب الصدام والخصام، وتبقى ليبيا وشعبها الشقيق في القلب من مصر والمصريين.
نجحت القيادة السياسية المصرية بحكمة وحنكة نادرين في حاضرات أيامنا، في القفز فوق الفخاخ التي نصبت ولا تزال للكنانة، ومحاولة توريطها في مستنقع الصراع الأهلي، بل والدولي الذي جرت به المقادير على الأراضي الليبية.
على أن ذلك لم ولن يعني عند أي لحظة زمنية قائمة بعينها، عدم الاستعداد للتدخل، حين يهدد أي غازٍ أو محتل، الأمن القومي المصري، فمنذ يونيو (حزيران) المنصرم، والقاصي والداني يدرك تمام الإدراك، أنَّ الموقف الذي تفضل به الرئيس السيسي، عندما حدد الخط الأحمر «سرت - الجفرة»، كان نقطة البداية التي فتحت المجال أمام الأشقاء في ليبيا إلى الاتجاه للحل السياسي ونبذ الصراعات. في الوقت عينه، أدركت القوى التي لا تحمل الخير لليبيا ولا لليبيين، وبالقدر نفسه لمصر والمصريين، أن فكرة المناورة أو المراوغة والتقدم لشبر واحد بعد الخط الأحمر، سوف يعني هلاكاً مبيناً من الجيش المصري الذي يحتل المرتبة التاسعة عالمياً، أما عن وضعه في الشرق الأوسط فحدث ولا حرج، ومع ذلك لم يكن يوماً سوى جيش مدافع عن العرض والأرض، ضمن عقيدة قتالية عسكرية، من زمن مينا إلى أوان الرئيس عبد الفتاح السيسي.
غابت مصر، أو بمعنى أدق غيبت رسمياً من 2011 حتى 2013، بفعل ثورات «أبوكريفية» زائفة، إلى أن خرجت الجماهير إلى الشوارع، تطالب بسقوط الجماعة الإرهابية، وإن لم يغب ما يحدث في ليبيا عن أعين حورس المصري التي لا تنام.
تالياً وحين جدد المصريون كالنسر شبابهم في 30 يونيو، بدا الالتفات جدياً نحو ليبيا، بأخوة تجاه من يستحقونها، وبيد باطشة في مواجهة الإرهابيين.
ظلت رؤية مصر لليبيا تتمثل في البحث عن حل سياسي، تدعمه رؤية وطنية ليبية، تصون مقدرات الشعب الليبي، وتحافظ على وحدة أراضيه، وترفض أي ضغوطات أو إملاءات من أطراف خارجية لا تغيب نيّاتها الخبيثة عن الليبيين كافة، إلا الفئة الضالة التي فتحت الأبواب الليبية لإدخال الميليشيات الغازية، وقد كانوا كعب أخيل، في محاولة لإضعاف الجسد الليبي، وتفريق وحدة الصف، وفي الأثناء التآمر على ثروات ليبيا واستنزافها.
شاركت مصر في مؤتمر برلين، وقد كان موقفها ثابتاً لا يتعدل ولا يتبدل، مؤكدة أنه ما من مصلحة لأحد في أن تتحول ليبيا إلى بلد تتخطفه الأزمات وتمزقه الصراعات، أو أن تصبح مصدراً للتهديدات الإرهابية، وقد عانت مصر، وبالضبط كما دفعت تونس وبقية منطقة المغرب العربي ثمناً باهظاً من جراء الإرهاب الناشئ على الأراضي الليبية.
أدركت القاهرة أن الذين طردتهم وطاردتهم من الباب في ثورة يونيو، يحاولون العودة من النوافذ مرة أخرى، ولم يكن لتغيب عن الأعين الحارسة النيّات التركية التي لم تحمل للعرب عبر خمسمائة عام أي فضل، بل على العكس صدرت التخلف والهمجية، وسرقت الشعوب، واليوم تبعث بمرتزقتها، إلى ليبيا، مستغلة تعاون الطابور الخامس الإخواني على الأرض هناك، ووجود ثغرة في الجدار العربي، واضحة وضوح الشمس في ضحاها، تقوم على التمويل واستخدام الفوائض المالية، لتنفيذ المشروع الإرهابي الأوسع الذي يراود أحلامها.
في هذا السياق رفضت مصر مذكرة التفاهم الموقعة في إسطنبول بين فايز السراج والحكومة التركية حول التعاون الأمني والعسكري، انطلاقاً من عدم قانونيتها، وعدم التصديق عليها من قبل مجلس النواب الليبي، ولأنها بغير مواراة أو مداراة ليست سوى غزو تركي مقنع، ولا مصالحة ليبية داخلية إلا برحيل آخر مرتزق تركي أو من استجلبتهم أنقرة لإفساد الوضع الليبي بشكل عام.
سخرت القاهرة دبلوماسيتها البارعة في مد الخطوط ونسج الخيوط الداعمة للحل الوطني الليبي، والبداية من عند رفض التدخلات العسكرية الخارجية، وعقد اجتماع تنسيقي وزاري ضم وزراء خارجية كل من فرنسا واليونان وقبرص وإيطاليا، وبذلك اعتبرت القاهرة أن ما يحدث في ليبيا أمر إقليمي، وليس نزاعاً محلياً، يغازل فيه الأغا العثمانلي، الأطماع التاريخية في ثروات ليبيا، ومن ورائها خيرات البحر الأبيض المتوسط، بخاصة الغاز المكتشف حديثاً.
طوال السنوات الخمس الماضية، استقبلت القاهرة كل الفصائل الليبية، ووقفت على مسافة واحدة من المتحاربين، ولذلك، وفي لحظة وعي تاريخية ليبية، اكتشف الجميع أن مصر ليست لديها أي أطماع في ليبيا، ولهذا كان نجاح لقاء الغردقة وما سبقته من لقاءات وما تلاها، مدخلاً للتطورات السياسية الإيجابية الأخيرة. دعم مصر للأشقاء في ليبيا ليس تفضلاً أو منة... إنه حق الأخوة.