بقلم - إميل أمين
قبل بضعة أيام، أعلن مركز الملك عبد الله بن العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد» عن مولد قيادة جديدة لأوركسترا الوفاق والاتفاق، التصالح والتسامح، تلك التي يقودها منذ عقد من الزمن.
من حسن الطالع أن يكون على رأس المركز الدكتور زهير فهد الحارثي، وهو رجل ذو خبرة طويلة في المجال السياسي والكتابي، والسفير كارولس ريبيرو، الدبلوماسي المعروف نائباً له.
تجيء القيادة الجديدة لـ«كايسيد»، مع انتقال المركز جغرافياً إلى دولة البرتغال، وبعد أن «جلب الثراء إلى فيينا وضواحيها، وخارج حدود النمسا، عبر إسهاماته الدولية القيمة التي قدمها من أجل حلّ النزاعات وبناء سلام إيجابي في جميع أنحاء العالم»، والتعبير لرئيس النمسا الأسبق هاينز فيشر.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرد وعرض ما قدمه «كايسيد» خلال العقد الماضي، غير أن أنفع وأرفع ما فعله هو الخروج بالرؤى الحوارية من الغرف المغلقة، والقاعات الوثيرة الفخمة المكيفة، هناك حيث تتحاور الإنتلجنسيا، عربية كانت أو أجنبية، إلى حدود الآفاق الشعبية، عبر برامج وندوات، مؤتمرات ومعسكرات تدريب، شاركت فيها وجوه شبابية من الجنسين، مغايرة للوجوه التقليدية، التي ما برحنا نراها في كافة منتديات حوارات أتباع الأديان.
يأتي برنامج «كايسيد» للزمالة الدولية، ذاك الذي أزاح كثيراً من السدود العقلية، في مقدم تلك البرامج، إذ قدر له أن يقوم على تخريج نحو 515 من قيادات الحوار الشابة من 75 دولة مختلفة منذ تأسيسه في عام 2015 من بين قيادات المركز المبتكرة وإسهاماته الحاسمة في حل النزاعات وإحلال السلام.
ومع القيادة الجديدة، والمقر المغاير، يتساءل المرء عن التحديات التي تواجه هذا المركز الفريد من نوعه، الذي قدر له أن يغير الأوضاع ويبدل الطباع، في نقاط ساخنة وملتهبة، أفريقية وآسيوية، وبطبيعة الحال شرق أوسطية، كما تطلع لمشاغبة الأميركتين فكرياً ولا يزال؟
الثابت أن الدكتور الحارثي يذهب بنا إلى منطقة تستدعي إعمال العقل في واقع العالم المعاصر، وعنده أن التحدي الأكبر الذي يواجهه «كايسيد» إنما يتمثل في اختلاف وجهات نظرنا وثقافتنا وتقاليدنا الروحية.
غير أن الأمين العام الجديد ينظر إلى المحنة بوصفها منحة، ذلك أن هذا التضاد يمكن أن يكون ركيزة حية لانطلاقة متجددة، وعبر الحوار والجوار بين أتباع الأديان، وزيادة فهمنا للآخر، يمكننا معاً أن نصبو نحو عالم جديد، يحفل بالتنوع، ويحتفل به في الوقت عينه، ولا تضيع من أمام عينيه قيمنا المشتركة حول السلام والعدالة.
آمن القيمون على «كايسيد»، طوال 10 سنوات خلت، بأن جميع الأديان التوحيدية، حتى المذاهب الوضعية في جوهرها، تدعو إلى السلام والرحمة، وبدت مسيرة مركز الملك عبد الله العالمي دعوة للبشرية للالتحام بعضها مع البعض، التحام تعززه الإرادة الصالحة، لتوحيد جهود الإنسانية، عن طريق نشر ثقافة الحوار، وبهدف نشوء وارتقاء أجيال واعية ومؤمنة بالتعددية والمواطنة المشتركة، أجيال تجاهد سلمياً من أجل تعزيز التماسك الاجتماعي بين كافة مكونات المجتمع المحلي والدولي.
هل من حاجة إلى ازدهار «كايسيد» في مقره الجديد، ومع ريادته الفكرية المتجددة، وبصورة أقوى وحاجة أشد مما كان عليه الوضع خلال السنوات الماضية؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، خاصة في ظل «عصر اللايقين»، وفي زمن أطلق عليه بعضهم «أوان ملتقى الأزمات»؛ حيث العالم يئن جريحاً بعد جائحة ضارية وضاربة، وأزمات بمناحي الحياة كافة، ما بين ارتفاع أسعار وطاقة، وتحت سيف الطبيعة البتار والتغيرات المناخية المؤلمة.
هنا يحق لـ«كايسيد» كافة العمل من أجل صون كرامة النوع البشري، ولضمان صيرورة هذه الكرامة فإنه ما من بد من أن تلتقي قيادات العالم، ولا سيما الدينية والثقافية، التي تمثل القلب النابض والعقل المحرر، بهدف بلورة رؤية مشتركة لاستنقاذ العالم من وهدته، من غير محاصصة أو استبعاد أو إقصاء.
في طريق عودته من كازاخستان، تحدث البابا فرنسيس، رأس دول الفاتيكان، العضو المؤسس والمراقب في «كايسيد» بالقول: «يجب أن يتم الحوار دائماً بخطوة إلى الأمام، وبأيدي ممدودة، لأننا إن لم نقم بذلك، فنحن نغلق الباب المعقول الوحيد للسلام».
يخشى فرنسيس بنوع خاص ممن سماهم مسحاء الشعبوية، أولئك الذين باتوا يشكلون انتكاسة في طريق نهضة الأمم وتقدم الشعوب.
يبدو «كايسيد»، الذي يحظى برعاية المملكة العربية السعودية، ويستضئ بـ«رؤية 2030» التنويرية التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، شمعة في وسط ظلام حضارة تتألم وتتمخض.
وهكذا تبقى «كايسيد» رؤية إنسانية لتشخيص الداء وتقديم الدواء.