بقلم - فـــؤاد مطـــر
وسط هذه العتمة البرلمانية في لبنان، وعقوق الذين لا يحسمون الأمر انتخاباً لرئيس يبدد الانطباع السائد بأن لبنان «يتيم الرئيس»، كما حال يتيم الأهل، فيصبح بالتالي برسم مَن يتبناه، لا يملك المرء سوى التقدير لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي أنجزت كياسته وتواضعه وحنكته أمراً كان عموماً موضع تعثرات نتيجة تدخلات أهل السياسة في شؤون أهل الإفتاء، وجاء المفتي دريان يؤكد أن ما استعصى على البرلمان اللبناني رئيساً وأعضاء إنجازه، وبقي «لبنان يتيم الرئيس» يوماً... بعد يوم... بعد أسابيع مرشحة لتكون بضعة أشهر، حققه ضمن أصول العملية الانتخابية الديمقراطية. ويوم الأحد 18 ديسمبر (كانون الأول) من عام الذبول اللبناني تمت مصادقته على نتائج انتخاب ستة مفتين للمناطق اللبنانية: الشيخ محمد طارق إمام مفتي طرابلس 66.40 في المائة. الشيخ زيد محمد بكار زكريا مفتي عكار بنسبة 45.56 في المائة. الشيخ علي الغزاوي مفتي زحلة بنسبة 56.60 في المائة. الشيخ وفيق حجازي مفتي راشيا بنسبة 85.70 في المائة. الشيخ أيمن الرفاعي مفتي بعلبك - الهرمل بنسبة 65 في المائة. الشيخ حسن دلي مفتي حاصبيا - مرجعيون بنسبة 80.95 في المائة.
جاءت العملية الانتخابية للمفتين الستة بمثابة أمثولة مقرونة بالتمنيات. الأمثولة هي في أن العملية الانتخابية ما دامت لملء منصب له تأثيره في المسيرة الوطنية سياسياً كان هذا المنصب أو دينياً، فمن الواجب أن تتم بالخيار المنزه عن التدخل، والتسليم بالنتيجة أياً جاءت ما دام الانتخاب جرى وفق الأصول. وأما التمنيات، فإن المفتي (لفظة دريان بالعامية معناها أنه يدري بما يجري ويحاك سراً) المحيط بحكم منصبه والدور الذي أداه في سبيل التوافق السياسي من أجل إنجاز انتخاب رئيس الجمهورية، وأدى ذلك الدور حتى قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون إحساساً من جانبه بخطورة ملعوب الفراغ المتعمد لمنصب رئاسة الجمهورية وملعوب التبهيت لمنصب رئيس الحكومة فيما المتنعمة بالاستقرار هي رئاسة البرلمان الذي بتعاطي أكثر أعضائه مع حالة الرئاستين يجعلون من الفراغ أمراً واقعاً، وتلك ذروة الاستهانة وعدم تأدية الواجب الوطني.
كانت تمنيات المفتي متمثلة بقوله، وقد أنجز أرقى عملية انتخابية لم تترك مجالاً للفراغ الإفتائي في المناطق اللبنانية الست «ما حصل اليوم (أي الأحد 12.18.2022) من انتخابات للمفتين رسالة واضحة إلى كل القوى السياسية في لبنان لكي تسارع إلى انتخاب رئيس الجمهورية يجمع بين اللبنانيين، ويلتزم الدستور والميثاق الوطني، بخاصة وثيقة الوفاق الوطني المعروفة (اتفاق الطائف) التي أخرجت لبنان من نفق النزاعات إلى رحاب الوطن...»، ثم زاد التمنيات تحذيراً وتنبيهاً بعبارة «الشغور الرئاسي أمر مرفوض وخطير ويهدد المسلمين والمسيحيين في وطنهم المبني على أُسس ثقافة المواطنة...». وهو في تحذيره هذا يلتقي مع فيض التنبيهات والتمنيات من جانب المرجعيات الدينية اللبنانية الحرص والهوى، بالذات البطريرك بشارة الراعي الذي أوجز في آخر عظاته للعام 2022 الهوية السياسية للرئيس المأمول انتخابه بعبارة «رئيس يحمي ظهر لبنان وصدره لا ظهر هذا أو ذاك».
هذه التحذيرات والتنبيهات كان من شأن استكمالها بعبارات بالروحية نفسها من جانب الأمين العام «حزب الله» حسن نصر الله، حدوث انفراج مغيب، أو فلنقل مقفل عليه كما السجين في زنزانة المستهينين بمصائر الأوطان وآمال المواطنين ومطالبهم المحقة. وكان اللبنانيون المكتوون بما آلت إليه الأحوال في الوطن من سوء إدارة الأزمة يتوقعون في ضوء ما آلت إليه التحالفات المرحلية أن يغتنم نصر الله مناسبة احتفالية حزبه بذكرى مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ويقول في خطابه (عصر الثلاثاء 3 يناير/ كانون الثاني 2022) من العبارات ما يساعد على تحقيق نسبة من التفاؤل بإمكانية التلاقي مع التمنيات التي أشرنا إليها صدرت عن المفتي دريان والبطريرك الراعي، وبذلك تتلاشى احتمالات الفراغ الرئاسي بالاتفاق الوطني على رئيس لكل اللبنانيين لا يكون بمثل الرئيس الذي صدمت خطط الإتيان به تليها سنوات أربع، الشعب اللبناني بمَن في ذلك جمهور شعبويتيه المارونية والشيعية. لكن ما تمناه اللبنانيون لم يحصل، ذلك أن معادلة الشعب والجيش والمقاومة، وإن كان التحديد لها صيغ بمفردات جديدة في خطاب الاحتفالية السليمانية، ما زالت على حالها شرطاً لا جدال في مطلب أي إعادة نظر في المعادلة كما هي منذ رئاسات إلياس الهراوي وإميل لحود وميشال عون مع تعديل طفيف متأخر من رئاسة ميشال سليمان. ومع أن نصر الله لم يردد المعادلة المثلثة في خطابه (عصر الثلاثاء 3 يناير 2023) إلا أن ما لم يرد على اللسان بصريح القول ما زال حاضراً وبقوة في النهج. وبسبب استمرار هذا الحضور لا يبدو تيسير الأمور وارداً إلا إذا وجه النظام الإيراني بذلك تحت وطأة الأحداث الاحتجاجية في مناطق من إيران ووصول الترويض الترغيبي الإماراتي للرئيس بشار الأسد وتحت تأثير وطأة الظروف البالغة القساوة التي تعيشها سوريا معيشياً واقتصادياً ومالياً، إلى استعادة هوية سوريا العربية من هوية سوريا الإيرانية، أو تمنى نصر الله على مرجعيته الإيرانية بشقيْها المرشد وقيادة العمليات الثورية خارج إيران، أي «فيلق القدس» مركز القوة الأكثر فاعلية الذي شغله الجنرال قاسم سليماني حتى تصفيته مع ركنه العراقي أبو مهدي المهندس، تيسير الأمور بإعطاء «حزب الله» هامش حرية إبداء المرونة في التعامل مع الأزمة اللبنانية التي تزداد تعقيداً، وإعطاء الحرية نفسها إلى حوثيي اليمن بأن يَخْلدوا إلى قيلولة من التفكير والتبصر في واقع الحال غير قيلولات أوقات العصر من النهارات، وهي القيلولات التي تنتج تهيؤات، من بينها الإمساك بالعاصمة صنعاء رهينة، وبعض العمليات الثورية تبقى إلى حين مجرد عملية استيلاء على حقوق وطنية ألحقت الأذى بالكيان والشعب، وتلحق الضرر أحياناً بالجار السعودي الذي هو السند في الشدائد ماضياً والمغيث حاضراً في أزمان الويلات، كما الويل الراهن غذائياً وصحياً. لكن مآل الاستيلاء إلى التلاشي وإن طال العناد. ومثل هذا الاستيلاء يجاهد الحُكْم العراقي إلى تجفيف تأثيره من خلال إبقاء اليد العراقية الرسمية كما الشعبية تصافح اليد العربية من دون التحسس من هذا الأخ المشارقي وذاك الأخ المغاربي. وما يقال في شأن مصير الاستيلاء الحاصل في اليمن ومثيله في لبنان أنهما على طريق الذبول لمجرد استعادة التبصر إلى الحكم السوري.
وتكراراً يجدد اللبناني التمني بالنسبة إلى موضوع الحوار المفقود والمأمول إنجازه على وجه السرعة كعلاج للحالة اللبنانية التي تزداد تعقيداً، بأن تكون الإطلالة الآتية لنصر الله عبارة عن بشرى بأنه طلب من المرشد خامنئي ومن جنرال إدارة الرموز الإيرانية الهوى خارج إيران، وبالذات «حزب الله» وزعيمه، فك الاحتفاظ بالقبضة الإيرانية ممسكة بالقرار المناسب لها في لبنان، وأن صفحة ناصعة البياض سيسطر عليها الجميع الولاء للبنان السيد والصديق للجميع، ومن بينهم إيران الجديدة، التي يمكن أن ترى قيادتها أن عليها أن تربح شعبها وشعوب المنطقة. وعندها ترتاح نفس الرئيس نبيه بري الذي أرهقت تعقيدات الثنائية ووطأة المسايرة مهابة مشاعره العروبية، وينتخب برلمانه رئيس البلاد بجلسة قصيرة وشكلية.
والله مع الذين يرون أن الهداية هي السبيل إلى مرضاته جلت قدرته.