بقلم: فـــؤاد مطـــر
جاء انعقاد القمة العربية الواحدة والثلاثين في الجزائر (1 و2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) يُبهج في الدرجة الأُولى نفوس إخواننا الجزائريين؛ كون الانعقاد يتزامن مع الذكرى الثامنة والستين لذكرى حرب التحرير التي كان أبناء الأمتيْن العربية والإسلامية في الخمسينات وقوداً معنوياً لها. وليس مبالغة القول إن الوقفة الشعبية والحكومية العربية، وبالذات في مصر والسعودية ولبنان وسوريا والعراق، مع حرب التحرير التي بدأها المناضلون الجزائريون ساهمت بنسبة ملحوظة في انتعاش الإحساس بالعروبة بعدما أمعن الاستعمار الفرنسي شراسة في إطفاء جذوتها. بل يمكن القول إن للوقفة العربية المشار إليها حيزاً بارزاً في ظاهرة التعريب التي نشطت بعد نيْل الاستقلال وبدء التخلص بالتدرج من كوابيس الفرنسة.
ومن محاسن الصدف أن القمة النوفمبرية، كما يفضل بعض إخواننا الجزائريين تسميتها إلى جانب التسمية الرسمية «قمة لم الشمل»، جاءت على خلفية كسْب نوعي من الدولة الفرنسية التي ظلمت الجزائريين قرناً كاملاً، وجاء رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون ثم رئيسة وزراء الحكومة الحالية يحاولان من خلال خطوات تتصل بتنقية الذاكرة وبتطوير التعامل بين الدولتيْن، وهو إنجاز يُذكر بالتقدير الشعبي الجزائري للرئيس عبد المجيد تبون، الذي أراد وقد تزامن دور انعقاد القمة العربية المرجأ انعقادها طويلاً، مع رئاسته للدولة، أن يضيف إلى شأن الجزائر المزيد مما ارتبطت به من مبادرات ملحوظة على طريق العمل العربي المشترَك. ومثل هذه الإضافة تشكل تحدياً له كأحد الضيوف الجدد من حيث المشاركة في مؤسسة القمة العربية بنوعيْها الاستثنائي أو الدوري؛ كونه حديث الترؤس للبلاد، شأنه في ذلك شأن آخرين من الضيوف؛ أبرزهم الرئيس التونسي قيس بن سعيد، والرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، والرئيس السوداني العسكري-المدني عبد الفتاح البرهان، إلى جانب آخرين يمثلون دولهم نيابة عن أهل الحكم. وتلك تجربة مفيدة للجدد؛ علهم يضيفون إلى مؤسسة القمة ما من شأنه التفعيل الأكثر ضرورة والتقليل من الأكثر ضرراً، وبالذات ما يتعلق بقضايا خلافية تتصل بالتدخلات التي تؤذي العمل العربي، وتتسبب في انشغالات بال حكومات تسعى لتحقيق نهوض نوعي في البلاد. وهنا تحديداً يمكن القول إن التدخلات كما هو ظاهر ونشِطْ تنحصر في دولتيْن جارتيْن تشاء الصدف أن الاثنتين غير عربيتيْن وأن لكل منهما «أجندة» تتضمن بنود مراحلها خُططاً عسكرية واقتصادية، وكلها بهدف زعزعة الاستقرار في دول عربية.
وما يراد قوله هنا إن أهل الحكم الجزائري الذين بذلوا جهداً مشكوراً في محاولة محفوفة بعدم الثبات لكن خيراً حدثت، لتحقيق مصالحة فلسطينية، كانوا من أجْل تحقيق نقلة نوعية في العمل العربي المشترَك وبحيث يكون «لم الشمل» حاصلاً، مطالَبين بمحاولة لدى كل من النظام الإيراني والنظام التركي لكي يعيد الطرفان ترتيب علاقات كل منهما مع الدول العربية؛ إذ إن ما يفعلانه في العراق واليمن ولبنان وسوريا وغزة الخارجة عن السلطة الفلسطينية، هو تفرقة العرب عن بعضهم. أو تناغماً مع تسمية الجزائر للقمة أنهم ضد لم الشمل العربي. وليس خافياً على الرئيس الجزائري الباذل كثير الجهد من أجْل إعادة ترتيب البيت وتنقية شوائبه، ولا على الرمز الحالي للدبلوماسية الجزائرية والمدى الرحب في تخريجات رمطان لعمامرة لما يتعلق بالغياب السوري، فضلاً على عدم تسميات المتدخلين والإفاضة في مخاطر التدخل.. ليس خافياً على كليهما أن جارهما الليبي لن يلتئم شمله ما دام التدخل التركي في شأنه على ما حدث ويتواصل حدوثاً، فضلاً على أن المتدخل في ليبيا يتطلع إلى التدخل في الجزائر وفي تونس وفي موريتانيا وفي المغرب، إلى جانب تطلعات لا يخفيها وإن كان أخفق أكثر من مرة تجاه مصر. فالرئيس إردوغان صاحب مشروع احتواء دول إسلامية، بمثل المشروع الإيراني الذي سبقه. وهو في بعض مفردات كلام يقوله ولا يأخذ طريقه للنشر يقوم بالتنظير المستند إلى أن المشروع الشيعي الذي تنشط إيران الخمينية-الخامنئية في سبيله يتطلب مواجهته بالمشروع السُني الذي لا قدرة لدولة على السير فيه إلا بعد وضْع اليد على مصر الزاهية بأزهرها وتراثها. وما الخطوات التي اتخذها لجهة الحملة الإخوانية على مصر تقودها عناصر مستضافة، وكذلك توسيع رقعة التغلغل في ليبيا، سوى مرحلة من جملة مراحل تحقيق ما يتطلع إليه.
من هنا فإن «سلاح» العلاقة الاقتصادية المتطورة بين الجزائر وكل من الجمهورية الخامنئية والجمهورية الإردوغانية الذي أوجب بعض الخفر اللفظي في التعبير خلال القمة النوفمبرية، والتي هي أيضاً «قمة ربيع الأول»، عن حقيقة الدور الإيراني وصنوه التركي في ثلاثة أرباع الدول العربية، لا يحقق عدم تنقيحه أي سعي من أجْل «لم الشمل». ومن حق الذين شاركوا في القمة أن يأملوا من الجزائر حراكاً لدى كل من الجارتيْن المتدخلتيْن وأحياناً إلى درجة التهديدات، كي تسلكا سواء السبيل الذي يحقق حُسْن جوار قائم على أفضل العلاقات، وأن يكون الجهد الذي يُبذل في هذا الشأن جُهد مَن يريد فعلاً تحويل «لم الشمل» إلى حقيقة وليس مجرد مفردة تستند إلى مشاعر الحرص.
وما من الواجب سعيه لدى كل من جمهوريتيْ التدخل الإيرانية الخمينية-الخامنئية والتركية الإردوغانية، من المهم استكماله بسعي لدى روسيا البوتينية التي ذرفت حرصاً على القمة كلمات بدا فيها الرئيس بوتين أنه مفعم حباً بالعرب والعروبة. فالثلاثة ومعهم الولايات المتحدة التي تُضيِّع البوصلة في مسار علاقاتها مع المنطقة يتحملون ما هو حاصل في المنطقة، وبالذات في سوريا التي يلملم نظامها البشَّاري جراح عقديْن فقدت فيهما سوريا الدور والطمأنينة والتطور والمكانة، وبحيث بات اليباب هو السمة لها كما للبنان الذي أتخمته بالنازحين. وعندما ينحسر الإطباق الإيراني - التركي - الروسي - الأميركي عن سوريا، يسهل عندها استعادة سوريا إلى الخيمة العربية جنباً إلى جنب مع سائر الأشقاء. والاستعادة مرتبطة بقرار شجاع يتخذه النظام البشَّاري لجهة تخلُّصه بالحُسنى (على طريقة تخلُّص الرئيس السادات من العبء السوفياتي) من وطأة الذين أتوا لدور عابر وطاب لهم البقاء سنوات. وفي ضوء الخيار الجديد تحدث الاستعادة كما استعادة مصر ماضياً في زمن الرئيس مبارك إلى الخيمة العربية ومحو مقولة الرئيس السابق أنور السادات (رحمة الله على الوارث والموروث) عن الجامعة العربية «خذوها مش عايزينها». من كتاب أدبيات التعامل.
خلاصة التأمل في القمة العربية التي استضافتْها الجزائر، وكانت استضافة مشهودة من حيث التوق إلى العروبة، أنها أبقت مسألة منصب الأمين العام للجامعة على حالها، أي لا مداورة انسجاماً مع مداورة انعقاد القمة، وأنها زرعت شتلة «التوافق» بأمل حدوث الوفاق من الآن وحتى انعقاد القمة الثانية والثلاثين في الرياض.. والتي مقارنة بنتائج قمم خليجية وعربية ودولية استُضيفت في الرياض والعلا وجدة ومكة وكلها ناجحة بنِسَب متفاوتة، مع ملاحظة أن ما يتعلق بموضوع العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة يبدو في ضوء نمو الدور الفاعل دولياً الذي بات مرتبطاً بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج ربما يكون الإنجاز الذي تبدو القضية الفلسطينية على موعد لحدوثه بسعي خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان. فما كان ماضياً هو غير ما بدأ يتسع على خريطة العلاقة السعودية مع دول العالم كبرى وغيرها، وبالذات دول متوسطة الحال طالما ضغطت عليها الإدارة الأميركية وأغوتها إسرائيل؛ كي لا يكون هنالك تصويت على قبول كامل لفلسطين عضواً في الأمم المتحدة. وما بعد القبول تأخذ المبادرة العربية للسلام الطريق بالتدرج نحو التنفيذ، وتدخل دول المنطقة مدار الطمأنينة ورغد العيش بعد فقدان لهما طال واستشرى ووصل إلى حد أن رئيس الحكومة اللبنانية المسلوبة كامل الصلاحيات نجيب ميقاتي وقف من على منبر القمة خطيباً معلناً انطفاء لبنان المنارة، وهو في ما قاله لا يبالغ. لعل الإضاءة تستعاد بعد القمة العربية المأمولة خيراً للأمة تستضيفها المملكة، وتشهد المنطقة بداية مرحلة خسوف شريعة التدخل، توأم شريعة الغاب، في الشؤون الداخلية بعد أن يكون رئيس الجزائر والقمة الواحدة والثلاثون حققا للأمتيْن ما هو مأمول تحقيقه، وسلَّما الأمانة إلى اليد الأمينة. والله الولي والكريم.