بقلم: فـــؤاد مطـــر
بعدما عاد بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة في إسرائيل افترض كثيرون من الذين سجلوا خطوة نوعية على طريق السلام الذي لا تتيح له إسرائيل حكومة إثر أُخرى فرصة التحقق، أن يطوي الرجل صفحة المعادي للتسوية الموضوعية، ويصدر من الجانب الإسرائيلي ما يبعث في النفس العربية نسبة من الشعور بأن إسرائيل الاحتلال والعدوان في الطريق نحو إسرائيل الراضية بكيان لا يخشاه العرب من المحيط إلى الخليج، ما دام سيأخذ بعد طول تردد لا مبرر له بأعقل صيغة تسوية للصراع العربي - الإسرائيلي متمثلاً «مبادرة السلام العربية» التي نالت موافقة عربية على مستوى القمة.
بدل أن تتلقف مراكز القرار في الدول الكبرى، وبالذات كرملين روسيا التي كانت تاريخياً الدولة الأُولى التي اعترفت بإسرائيل دولة من دول الأمم المتحدة، والبيت الأبيض الذي ابتهج ساكنه ترومان كما لم يبتهج اليهود أنفسهم بالدولة الجديدة مسجلاً أن أميركا ثاني دول الاعتراف، و«10 داوننغ ستريت» الرمز لوعد بلفور الذي كان تأشيرة الولادة والاعتراف... إن مراكز القرار تلك التي كان مأمولاً منها تلقُّف المبادرة وتسويقها بحيث تشق الطريق إلى القبول بمضمونها كأمر واقع، غضت الطرْف وتركت لعناصر في دواوينها ذوي ثقافة سياسية يهودية تضع العراقيل أمام أي موقف يؤدي إلى اعتماد المبادرة العربية للسلام حلاً ولا أفضل منه للصراع العربي - الإسرائيلي.
ومن جانبها وظفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الموقف الدولي، وتحديداً المثلث الأميركي - الروسي – البريطاني، أسوأ توظيف وفي أشكال من العدوان وتوسيع رقعة الاحتلال والزج بمئات المعترضين من الفلسطينيين في السجون، ووصلت ظاهرة «الأسرى المعمرين» إلى حد أن أحدهم أمضى أربعة عقود أسيراً... هذا فضلاً عن الألوف الذين بينهم نساء سجينات وأسرى منذ سنوات، ويتطور سوء المعاملة لهم إلى حد حرمانهم خبز فرن يستعملونه وأطعمة يطهونها (في سجون الاحتلال 14700 أسير فلسطيني بينهم 29 امرأة و150 طفلاً وقاصراً).
من الرئيس بوش الأب إلى الرئيس بايدن لا جدية من الجانب الأميركي في موضوع مبادرة السلام العربية. تصريحات بين الحين والآخر بعضها يتسم بالغرابة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قول الرئيس بوش الابن الذي أكمل مهمة بدأها والده وقضت بالحرب على العراق وإنهاء دوره كرقم في معادلات إقليمية كثيرة: «إن نهاية نظام صدَّام حسين ستوفر فرصة لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية... ».
بدل أن يسجل نتنياهو موقفاً إيجابياً هو بحاجة إلى اتخاذه، كونه ربما يمحو بعض الشيء الملاحقة القضائية له والتي وصلت فيما قبل ترؤسه إلى حد أن عقوبات شديدة القساوة بسمعته يمكن صدورها؛ فإنه انتهز فرصة زيارة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن ليتصرف كما لو أنه ملاك شكلاً بمخالب ضمناً. وهذا تمثَّل بقوله ومن قبْل أن يحط وزير الخارجية الأميركية رحاله في تل أبيب: «إن السلام مع الفلسطينيين يتحقق بعد السلام الشامل مع الدول العربية... ». وفي هذا الاشتراط استند إلى مكسبيْن لم يخطرا في البال العربي - الإسلامي حدثا في فترة زمنية متقاربة؛ إذ إن رئيس تشاد محمد ديبي سار على خطى والده إدريس الذي زار إسرائيل قبل أربع سنوات (2018) وجاء إلى تل أبيب يلقى من نتنياهو ترحيباً ما بعده ترحيب. وفي اليوم نفسه (الخميس 2 فبراير/ شباط) كان الرئيس السوداني الجنرال عبد الفتاح يستقبل في قصر الحكم في الخرطوم، وزير الخارجية الإسرائيلية، وتقول الخارجية السودانية إنه «تم الاتفاق خلال هذه الزيارة على المضي قُدماً في سبيل تطبيع العلاقات بين البلديْن». نقول ذلك على أساس أن القوى المدنية في معظمها اعترضت وبعضها استنكر. هل هذا يعني أن السيناريو يقضي بأن البرهان يستقبل وحميدتي يتبرأ، أو أن حميدتي يروم بموقفه هذا استقطاب الطيف المدني المتحفظ على التطبيع إلى جانبه لأمر يخطط له وطبيعته في عِلْم الغيب؟ في كل الأحوال نتذكر بكثير من الوجدانية سودان اللاءات الثلاث في «أم القمم العربية» في سبتمبر (أيلول) 1967.المهم أن وزير الخارجية الأميركية لم يُضِف ما يدعو إلى التوقع بأن أميركا بايدن ستكون بالنسبة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي أفضل من إدارات مضت وكانت تتعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي بأنها دائماً تتفهم إسرائيل وتغفر خطاياها ولا تتفهم رؤى الأمتين العربية والإسلامية، إلا عند نزوع البعض إلى التطبيع بهدف تحفيز إسرائيل للسير خطوة مقابل الخطوات. ولن تتحقق هذه الخطوة ما دام الموقف الأميركي ومعه البريطاني وسائر المواقف المتثائبة، لا تقرر استصدار قرار من الأمم المتحدة يتبنى مبادرة السلام العربية مع تحديد سقوف زمنية لتحقيق ذلك.
قبل زيارة إسرائيل، ثم لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقر سلطته، كان رئيس الدبلوماسية الأميركية سمع في القاهرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي حول الصراع العربي - الإسرائيلي وتعامُل إسرائيل مع أهل فلسطين، ما من شأنه تنبيه الإدارة الأميركية إلى أن عدم تفعيل كلامها حول صيغة حل الدولتيْن، من شأنه حدوث ما هو أشد خطورة من تلك الانتفاضة المحتملة التي لمّح إليها بكثير من الوضوح رئيس المخابرات المركزية الأميركية بعدما كان وقف في ضوء لقاءات له مع صانعي القرارات في العالم العربي، أبرزهم الرئيس السيسي الذي استقبل زيارة بلينكن بقمة في القاهرة مع الملك عبد الله الثاني والرئيس عباس، على مخاطر الوضع في الأراضي المحتلة، وكذلك في ضوء ما قاله الملك عبد الله الثاني في البيت الأبيض (يوم الجمعة 3 فبراير 2023)، ثم خلال لقاءات أعضاء من الكونغرس، ومن منطلق الحرص على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة للرئيس بايدن عندما التقى به.
خلاصة القول، أن الإدارة ماضياً ليس بعيداً وحاضراً كثير الوضوح، تتعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي بما يعطي العرب وإخوانهم الفلسطينيين من طرف لسان العم سام حلاوة لا أكثر، ولأنها كذلك فإن الدول الأُخرى أصحاب القرار الدولي الفاشل تتحمل وزر الاحتلال، وبالذات بريطانيا وفرنسا بنسبة صريحة وروسيا والصين بنسبة خجولة. وما دام التعامل سيبقى على هذا النحو، فإن نتنياهو يرى أن حل الدولتيْن يأتي بعد كامل التطبيع مع الدول العربية... أي باختصار إنه يريد السلامة، في حين الدول العربية متمسكة بالمبادرة التي جوهرها سلام كامل على الأرض العربية من لبنان إلى نواكشوط بعد الرباط مروراً بسائر الدول العربية. عدا ذلك تكون السلامة لإسرائيل مجرد مكيدة صهيونية وسلعة يشتري التاجر اليهودي الشاطر بموجبها بضاعة السلام الكامل مقابل الثمن الزهيد، الذي هو إدارة حكم ذاتي للفلسطينيين، كما الحال الآن، إنما شرط أن يتوقف نضالهم وعملياتهم الصاروخية والدهسية والاستشهادية والانتحارية، وكذلك حلمهم بالوطن الذي احتله عملياً الغرب وآخرون معه ما داموا ارتضوا إسرائيل دولة على أرض شعب، وكل ذلك بموجب وعد صاغه البريطاني البلفوري في زمن كانت سيادة الاستعمار هي القائمة.
مبادرة السلام العربية هي الصيغة المتوازنة لعلاج العقدة المستعصية، وعندما لا يؤخذ بها وتقرأ إسرائيل نتنياهو كما الذي قبله وربما الذين بعده، الأمر على هذا النحو، فإن تجربة التطبيع ليست فقط لن تتواصل الحدوث، وإنما قد يحدث فجأة ما يفيد بأن التجربة ستتوقف.
وهذا يبقى إلى أن يأتي الحق العربي ويزهق الباطل الإسرائيلي. ومَن يصبر يظفر.