أصدقائي من المهتمين بالشأن العام ينقسمون في موضوع الحرب الأوكرانية - الروسية إلى قسمين تقريباً، فريق يرى أن السيد فلاديمير بوتين على حق، وفريق آخر يرى أن السيد جو بايدن والغرب على حق، وأحسب أن هذا الانقسام يسري أيضاً على عدد من المهتمين العرب، وربما في العالم، فليس هناك ثقل نوعي كبير لأي من الطرفين يرجح بشكل نهائي طرفاً على آخر. كل له حجته التي تبدو مقنعة لمريديه لأن القضية المختلف عليها بحد ذاتها معقدة، وتحتمل العواطف، وأول ضحايا الحرب هي الحقيقة.
الفريق الأول يرى أن روسيا كانت مهددة من حلف الأطلسي وأن من حقها أن تدافع عن نفسها من خلال أعمال استباقية منها الحرب، وأن الغرب بصفة عامة يسير وراء أهدافه ومصالحه من دون النظر إلى مصالح الآخرين، واستخدام أوكرانيا ليس أكثر من رأس حربة من أجل احتواء روسيا الاتحادية وتكبيلها، وأن هذه الحرب لا محالة ستنتهي بانتصار روسيا لأنها الأقوى عُدة وعتاداً بالنسبة الى أوكرانيا، وتستطيع في الوقت نفسه أن تدعو معها عدداً من الدول مثل الصين وكوريا الشمالية وإيران ودول أخرى ترى في سياسات الغرب تغولاً غير مريح تجاه مصالحها، وأن التراجع الذي حدث أخيراً للقوات الروسية في أوكرانيا ما هو إلا تراجع تكتيكي لا أكثر، فالنصر أو الهزيمة ينتظر انتهاء الصراع، كما أن روسيا لم تؤثر فيها حملة العقوبات الاقتصادية أو الدبلوماسية، بل على العكس استطاع اقتصادها أن يقاوم كل ما فرض عليه من ضغوط الخارج كما أن قدرة الضغوط الداخلية على تغيير مسار السياسات ضعيفة بل قد تكون معدومة فالوقت ليس مهماً عندها.
أما الفريق الثاني فيرى أن روسيا الاتحادية قد اخترقت كل الاتفاقات الدولية التي وضعت منذ الحرب العالمية الثانية، وحاولت احتلال دولة جارة بالقوة العسكرية، وهو ما يحرّمه القانون الدولي، كما أن ذلك الدخول العسكري أولج روسيا في فخ لا تستطيع الخروج منه، وسيستنزف قواها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، وأن بلاداً مثل أوكرانيا قرر شعبها المقاومة، فلا بد من أن ينتصر، بخاصة أن دول الغرب تقوم برفد أوكرانيا بالسلاح والمساعدات العسكرية، وأيضاً بالمعلومات الاستخبارية التي هي الأهم في الحروب الحديثة، كما أن بوتين بعمله العسكري قدم خدمة جليلة لحلف الأطلسي الذي اعتقد بعض أعضائه أنه في حالة موت سريري فقط قبل أشهر من الحرب فأنعشته الحرب، الى جانب خسارة بلاد قريبة الى روسيا كانت محايدة مثل فنلندا والسويد اللتين فتح لهما الأطلسي أبوابه بسرعة قياسية، أما ضعف هذا المعسكر فلكونه ديموقراطياً وبالتالي فإن الضغوط الداخلية يمكن أن تؤثر في موقفه، فالوقت الطويل الذي تأخذه الحرب ليس في مصلحته.
أمام هذين الرأيين تبدو في خلفيتهما حقيقة (حتى الآن ثابتة) وهي أن استخدام السلاح النووي، وإن هدد به غير قابل للاستخدام حتى تكتيكياً، لأن ذلك الاستخدام سيوصل العالم إلى الشتاء المتخوف منه، سيناريو الكابوس وهو تدمير العالم كله، فالحروب الساخنة بالسلاح التقليدي وإن طالت أكثر سلامة للجميع.
كان بعض الاستراتيجيين الروس يتوقع أن الحرب لن تدوم غير أسابيع بسبب حسابات قديمة مفادها أن أوكرانيا كانت لفترة طويلة ضمن الإمبراطورية الروسية، وأن معظم سكانها يتحدثون الروسية، حتى أن الإعلان الروسي في الأيام الأولى من الحرب كان يخاطب الجنود الأوكرانيين، أن ألقوا بسلاحكم ولن يحدث لكم مكروه، وأنه لا يوجد شيء اسمه دولة أوكرانيا المستقلة، هذا الخطاب انتقل أخيراً الى احترام الشعب الأوكراني!
الحرب طالت أكثر مما ترغب فيها الأطراف الداخلة فيها مباشرة أو مساندة، وأثرت بشكل ضخم في الاقتصاد العالمي، فارتفعت الأسعار بشكل جنوني في أغلب دول العالم، إن لم يكن كلها، وتغول التضخم وتآكلت قيم العملات الدولية (عدا الدولار) ولكن ارتفاع الأسعار أثر سلباً أيضاً في قيمته الشرائية في الداخل الأميركي، وأيضاً تفجر جوع الطاقة، النفط والغاز، وتباطأ النمو الاقتصادي في الدول الصناعية ما ينذر بركود قد يطول.
أحد الآثار الكبرى التي أنتجتها الحرب هو جوع الطاقة الى جانب جوع المحاصيل الزراعية، والأخيرة ليس لها عنوان، أما الأولى فلها عنوان واضح هو "أوبك بلس" وفي قلبها الدول المنتجة للطاقة في دول الخليج العربي التي وجدت نفسها بين نارين، نار تراجع الأسعار، وبالتالي التأثير المباشر في قدرتها على الوفاء بمستلزمات خططها التنموية ومتطلبات شعوبها، ونار إثارة العداء الشعبي الذي تغذيه مطامح السياسيين في الغرب، أو أن تضحي بمصالح شعبها.
من هنا انطلقت بعد قرارات "أوبك بلس" الأسبوع الماضي حملة ضد دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، كونها المنتج المرجح، من دون استثناء دولة الإمارات وتجاهل بقية المنتجين، في الوقت الذي تقترب الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، وتتفاقم الأزمات السياسية في كل من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. رد فعل الولايات المتحدة بانفعالية حوّل قراراً اقتصادياً الى مواجهة سياسية.
بالطبع لم يُتخذ قرار خفض الإنتاج إرضاء لروسيا أو كرهاً بالغرب، إنما اتُخذ حفاظاً على مصالح الشعوب المنتجة، فكل البضائع المصنعة الآتية من الشرق أو الغرب ارتفعت أثمانها، ربما من دون رجعة، إلا أن من الطبيعي أن تقوم "زوبعة تسييس" غربية ضد المنتجين، ولأن المخيلة الغربية في العموم تحتفظ لأسباب تاريخية بصورة سلبية للعربي ذي العقال تصبح دوله وشعوبه هدفاً للتصويب السياسي غير الموضوعي.
منذ فترة كتب صاحب هذه السطور أن زمناً ليس ببعيد سنرى القول "إما أنتم معنا أو ضدنا" وستخرج تلك المقولة بطريقة أكثر تعقيداً كالقول "إنها دول ضد حقوق الإنسان" أو "حقوق العمال الضيوف" أو غيرها من الذرائع. كما أن الحديث قد بدأ بأنهم يفضلون روسيا على الغرب، لذلك يتوجب بدء العقاب، والذي قد يأخذ أشكالاً مختلفة وجب التحوط لها.
من الخطأ الجلوس على اليدين وترك الأمور تتفاعل باتجاه سقوط حر للرأي العام الغربي والعالمي باتجاه العداء وتركيز الصورة السلبية من أن هناك تحيزاً لطرف من دون آخر، ذلك يتطلب العمل الجاد والجماعي والمنظم أساساً تجاه الرأي العام الغربي، كما يتطلب سد ثغرات قد ينفذ منها الغرب في ملفات مثل المشاركة وحقوق الإنسان. فنحن بالضرورة لا نعانق بوتين أو بايدن، نحن فقط نعانق مصالح شعوبنا وحتى نتقي الأسوأ، علينا الشروع في إتمام مسيرة الإصلاح.