أتحدث عن الإعلام باللغة العربية وليس عن الإعلام العربي فقط، هناك بلدان كبرى تبث لنا تلفزيونياً وإذاعياً، وفي بعضها الاثنين معاً، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، كلها لها أذرع إعلامية تحمل رسائل ومحتوى يخدم أهدافها، كما لدينا عدد من محطات التلفزة العربية العابرة للحدود، طبعاً بجانب المنتج المحلي، والأخير ضعيف ولا يستطع المنافسة.
تلك الشبكة من وسائل الإعلام، بجانب الإعلام الرقمي الشعبي، هي في الغالب التي تصنع الرأي العام العربي اليوم. في الدولة الشمولية كانت الدولة تضبط الإعلام، وفي الدول التي تطبق الديموقراطية والسوق الحرة، الإعلام يضبطه رأس المال والسوق. اليوم الإعلام الشعبي لا ضابط له، فقد توسع المسرح الإعلامي إلى حد التفجر وأيضاً الفجور، فلم تعد هناك خطوط، لا خضر ولا حمر، تضبط إيقاعه، لذلك انتهينا برأي عام عربي مشوش ومختطف، والحديث هنا عن الجيوش الإعلامية الصاخبة من حولنا.
كانت هناك مشكلة في الإعلام التقليدي في الخلط بين الإعلام والدعاية، أصبحت المشكلة أكبر في الإعلام الشعبي، فهناك خلط بين الإعلام والدعاية والكذب والترويج للتّوافه.
إننا في عصر حروب الكلام واختطاف العقول، سواء عن طريق الترويج لمقولات خرافية تلبس ملابس الدين، أم لفجور في التصويب السياسي والاجتماعي والاقتصادي على الآخر، الفرد أو الدولة.
هناك أربعة مظاهر جلية على الأقل في الإعلام الشعبي تحتاج إلى دراسة وتمحيص من المختصين، وأيضاً لفت النظر إلى مخاطرها:
أولاً: خطاب الكراهية، فلم يعد ذلك الخطاب محصوراً في وسائل التواصل التقليدية، الصحافة والتلفاز، وإن كان موجوداً فيهما فمنضبط إلى حد بعيد، أما في الإعلام الشعبي المسمى الإعلام الاجتماعي، فليس له سقف من استخدام أبشع الألفاظ، ليس بين الأفراد فقط، ولكن أيضاً بين الشعوب، إذ انتشر بيننا القذف والشتم في هذا المجتمع أو ذاك، وكان نصيب المجتمعات الخليجية هو الأوفر، أما خطاب الكراهية البيني، أي بين مكوّنات الشعب الواحد، فتجد الازدراء شائعاً بين مكوّن وآخر، وقد ظهرت في بعضه عنصرية كريهة تفتت المجتمع، ما اضطرت معه بعض الحكومات لإصدار تشريع يجرّم ذلك القول العنصري، إلا أن قدرة صانع المحتوى على الاستمرار مفتوحة، كأن يتخفى تحت اسم مستعار أو يوجه رسائل من خارج المحيط الجغرافي.
ثانياً: فجوة المصداقية، فمع تقدم التقنية وجودة التركيب وسرعة الانتشار، يستفيد البعض من كل ذلك بتركيب صور أو إنشاء مستندات ومخاطبات تبدو لكثيرين حقيقية، فينتشر الموضوع بسرعة البرق على أنه حقيقة لا جدال فيها بين الجمهور، ويوجه العامة إلى مكان مقصود فيه إثارة وتحريض على شخص أو أشخاص أو إدارة أو دولة. هناك فجوة مصداقية ضخمة في الإعلام الجديد ينخدع بها في بعض الأوقات حتى الإعلام التقليدي فينقلها كما هي، ما يشكل "ديكتاتورية ناعمة" في عقل المتلقي.
ثالثاً: الخصام مع الزمن، وهنا يستخدم الشكل الديني لترويج مقولة خرافية. أخيراً نُشر في وسائل الإعلام تلك رجل يبدو من شكله الخارجي أنه رجل دين يقول لسامعيه إن اسم مدينة قم جاء من أن الشيطان أراد أن يستوطن تلك المدينة، فقال له الرب "قُم" أي اترك ذلك الموقع فتمت تسميتها بذلك الاسم، أي أن لا مكان للشيطان فيها في تغييب للعقول. ليس هو الوحيد ولكنه مثال. آخر يقول إن الديموقراطية حرام ومن يمارسها هو آثم...؟ وهكذا نجد آلاف الأشرطة من تلك التي تخاصم الزمن والعقل معاً، ويعتقد بها جمهور غير محصن ثقافياً أو علمياً على اتساع الرقعة الثقافية العربية.
رابعاً خطاب التشدد، ينتشر خطاب التشدد الديني في وسائل الإعلام الشعبية إلى حد الوباء، بخاصة في الوسائل المغلقة التي تنتشر بين الجماعات والأفراد كمثل الواتس أب، فهو يقدم في شكل نصائح وتعويذات وتوجيهات تبدو للعامة "مقنعة"، وهي أصلاً مبنية على افتراضات خاطئة ومقولات غير محققة، فيستقبلها البعض على أنها حقائق لا ريب فيها.
اإذاً أمامنا حرب خفية على العقل العربي هدفها التضليل، وتغييب الوعي والتحكم بالرأي العام وتوجيهه، يقوم ذلك الإعلام بقلب تراتبية القيم، فبدلاً من الاهتمام مثلاً بتجويد التعليم وترقية الخدمات العامة، ينصرف الذهن إلى الحور العين والثواب والعقاب أو إلى تتبع عورات الناس ونشرها. إنه يقدم لنا في فضائنا العربي مصفوفة قيم سلبية تتشبع بها عقول الجمهور، وعلى أساسها يُقاد ذلك الجمهور إلى ما أراد صانع المحتوى زجه فيه، وهو الاتكالية والإيمان بالخرافة.
هذا لا يعني أن الكثير من الإعلام التقليدي خال من تلك العيوب، فمن الملاحظ أن ذلك الإعلام، بدلاً من أن يُقوّم أخطاء الإعلام الشعبي، أصبح ينقل عنه ويروّج له، فأصبح ذلك الإعلام يعاني ضغط السرعة وغياب التخصص وضعف المهنية والإعداد الفقير للموضوعات التي تقدم للمشاهد، البعض يرى أن الإعلام الناجح هو "وجه حسن"، ولكن ذلك الوجه إن افتقد الثقافة واللياقة والمعرفة والتدريب أصبح رقماً سلبياً على المؤسسة التي يعمل بها.
بعض الملاحظات أن الإعلامي يتحول إلى "أبو العريف" فيقاطع الضيف ويقدم معلومات مغلوطة أو ينطق الأسماء والمفردات بطريقة غير صحيحة تعاكس المعنى. كما يقدم في بعض الأوقات موضوعات قريبة إلى التفاهة ومكررة، وكأن العالم مشغول بها لا بغيرها، وهنا تبرز أهمية سلّم الأولويات المناطة بالإدارة والإعداد أكثر منها بالمقدم.