بقلم : د.محمد الرميحى
في مقابلة مصوّرة نُشرت بكثافة الأسبوع الماضي في وسائل الاعلام للسيد فلاديمير بوتين، ويبدو أنّها قديمة أُعيد بثها، سأله المذيع هل تتسامح؟ ردّ "نعم ... الاّ في حالة واحدة هي... الخيانة". في 24 حزيران (يونيو) الماضي قال السيد يفغيني بريغوجين صاحب قوات المرتزقة "فاغنر"، إنّ "حرب أوكرانيا لم تكن أكثر من استيلاء الاوليغارشية الروسية على الأرض، واتخاذ الفقراء الروس وقوداً، وانّ المزاعم الروسية بمهاجمة روسيا أكاذيب"، بعد أن شارك في تلك الحرب ثم حشد بعض مجموعته باتجاه موسكو في تظاهرة قيل انّها ضدّ كبار المسؤولين في الجيش الروسي. وقتها وصف بوتين ما فعله بريغوجين بأنّه خيانة! بل طعنة في الظهر!
إذا ربطنا ما بين ثلاثة عناصر، التمرّد والتصريح القاطع، ورأي بوتين في الخيانة، وسقوط الطائرة، نستطيع أن نفترض متى وقَّع السيد بريغوجين شهادة وفاته!
القضية أكبر مما سمعنا في الكثير من التحليلات التي فاضت بها وسائل الإعلام العربية والعالمية، القضية هنا كيف يمكن لدولة كبرى لها مقعد دائم في مجلس الأمن أن تتحول إلى مافيا وتصدّر الإرهاب؟
شركات السيد بريغوجين كثيرة ومتشعبة، ومن بينها "مرتزقة فاغنر"، وهي مجموعة مسلّحة مكوّنة من خريجي سجون وجنود وضباط من المؤسسات العسكرية الروسية الذين تمّ الاستغناء عن خدماتهم بسبب أفعال مُجرمة، هذه المجموعة أطلقها النظام الروسي للعبث بالسلم والأمن في قارات الدنيا، وهي مجاميع لا إيديولوجيا لها إلاّ القتل وبثمن.
في آخر لقاء نُشر للسيد بريغوجين وهو في إفريقيا، قال: "نحن نحقق أهداف روسيا العظيمة"! فأي شك بين هذه المجموعة المرتزقة وبين النظام الروسي قد انتفى وتبدّد. بريغوجين نفسه صاحب سوابق إجرامية، وهذا يدلّ إلى انّ النظام الروسي يمكن ان يستعين بالشيطان لتحقيق أهدافه، والتي ليس من بينها بناء نظام عالمي جديد على قواعد إنسانية!
ورغم الافتراض الأقرب إلى العقل بأنّ الأجهزة الروسية أسقطت الطائرة بطريقة ما، فإنّ العديد من المحللين الروس من مناطق مختلفة، وحتى رسميين، ظهروا في وسائل الإعلام بنظريات مختلفة لسقوط الطائرة، على رأسها انّه عمل تخريبي من أوكرانيا! وليس متوقعاً منهم غير ذلك! الاّ انّ تفسير ذلك التوجّه هو أنّ ثمة شرخاً في الداخل الروسي يُراد له ان يلتئم بالقوة والتضليل!!
إذا كانت موسكو تريد بناء نظام عالمي جديد مبني على أنظمة شمولية فهو نظام لا يبشّر بخير للبشرية. كان يمكن القبض على بريغوجين وتقديمه للمحاكمة أمام العالم، ذلك من حق الدولة، اما أن يُغتال ويُمشى أيضاً في جنازته، إذ قال بوتين إنّ الرجل خدم وطنه، لكنه ارتكب اخطاء! فإنّ ذلك أمر يحتاج إلى ان يتوقف العالم أمامه ليعرف طبيعة ذلك النظام الذي يتخلّص من معارضيه من دون ان يرف له جفن.
صورة سقوط الطائرة من السماء وتدهورها إلى الأرض يترك في قلوب المشكّكين في الداخل الروسي الرجفة، فمن الواضح انّ خطط روسيا الأولى في غزو أوكرانيا كانت خطأ بشكل مأساوي، وبالتالي تركت الكثير من الشك في قطاعات واسعة من الشعوب الروسية، وكلما استمرت زادت تلك الشكوك، وبالتالي اهتزت صورة الزعيم صاحب الوجه الجامد.
لا بدّ من القول إنّ هناك شرائح في روسيا تمثل القومية المتعصبةن وقد كانت هي السند الأساس لشن الحرب في أوكرانيا، وكان يمثلها خير تمثيل السيد بريغوجين، اما نكوصه وتوصيفه السلبي للحرب في حزيران (يونيو) الماضي فهو دليل إلى تآكل شريحة القوميين المتعصبين وقرب اضطراب داخلي يتوجب إرسال رسالة رادعه له.
الأمر المخيف انّ دولة كبرى تشكّل قوة عسكرية ضاربة من مرتزقة، وتمكنهم من التمويل والسلاح ومن دون سقف أخلاقي او حتى عسكري، للتدخّل في شؤون بلاد أخرى، يتمّ التسامح معه طوال الوقت الماضي. فقد عبثت "فاغنر" بالشعب السوري، وأيضاً بالشعب الليبي، وهي تفعل ذلك في السودان، وعدد من شعوب إفريقيا، كل ذلك لمصالح تحدّدها موسكو. في البداية كانت هناك شكوك في وجود ارتباط مباشر بين تلك القوة المرتزقة والكرملين، بعد حرب أوكرانيا اتضح ذلك الارتباط من دون أدنى شك.
فعن أي نظام عالمي جديد يتحدثون، صحيح انّ النظام العالمي القائم ليس امرأة قيصر، فله الكثير من المثالب، ولكنه على الأقل محافظ على حدّ أدنى من حقوق الإنسان، وتطبيق القانون، إذ يواجه الخارجين على القانون بالقانون. مظهر النظام الجديد المتحدث عنه، هو الخروج عن القانون الإنساني من دون محاسبة وهذه ردّة حضارية .
أمامنا ما يحدث في أميركا من مظاهر مرض الديموقراطية ونقص آلياتها بين جمهوريين وديموقراطيين، ولكن القانون ما زال سارياً والمخطئ يُقدّم إلى المحاكم ولا تسقط طائرته من عَل!
ليس هنا أسرار في العالم، فقد قامت موسكو بالعديد من عمليات التصفية للمعارضين في الداخل و الخارج، في بريطانيا والسويد وغيرهما من البلدان، كما قام غيرها بتلك التصفيات في أماكن مختلفة من العالم بدرجات مختلفة.
إلاّ انّ ما بين يدينا هو أنّ قوة عظمى تفتقد برنامجاً واضحاً للتبادل السلمي للسلطة، والتوجّه لتفريخ قيصر من نوع مختلف، يحلّ شرعة السلطة محل سلطة الشرعية، فالحفاظ على السلطة بأي ثمن من دون تقديم مشروع إنساني تنموي، هو انتساب إلى السلطة وليس انتساباً إلى الوطن.
إذا كان الصراع القائم اليوم في العالم بين النظام القديم والنظام الجديد هو تمكين سلطة الإرهاب، فإنّ الإنسانية مقدمة على عصر مظلم تحرسه القوى النووية الباطشة الساعية إلى الاحتفاظ بالسلطة حتى الموت، وتقديم ملايين الضحايا في الداخل والخارج على مذبحها.
حرب أوكرانيا أُريد بها القول إنّ العدو في الخارج وعليكم ان تنسوا كل المساوئ في الداخل، هو أمر يقوم به القمعيون دائماً، كما فعل صدام حسين والقذافي وأمثالهما من القمعيين، هروباً من المستحقات في قبول التعددية والمشاركة والتنمية والتطور، ذلك ما تعنيه الصورة الرهيبة التي شهدها العالم في سقوط طائرة بريغوجين اللولبي من السماء!