درنة ومخلفات الأخ القائد

درنة ومخلفات الأخ القائد!

درنة ومخلفات الأخ القائد!

 العرب اليوم -

درنة ومخلفات الأخ القائد

بقلم: محمد الرميحي

هذا الحديث ليس عن الماضي، بل هو عن المستقبل. درنة، المدينة الليبية، اجتاحها إعصار «دانيال» الرهيب وأخذ آلاف الأرواح ودفنها تحت الأنقاض، وما زال البحر يلفظ الجثث، فقد أصاب المدينة بدمار هائل، إلا أن «دانيال» الرهيب مر بمدن أخرى، ولم يترك كل ذلك التدمير. جزئياً سبب التدمير الهائل هي البنية المتهالكة التي تركها «حكم الأخ العقيد» لمدة أربعة عقود، وتبعها عقدان من حروب التنافس الأنانيّ البشع.

     

لقد صرف الأخ العقيد مليارات الدولارات التي كانت تأتي من إنتاج النفط الليبي على حروب خارجية ومغامرات في الجوار وشراء الموالين وقمع الحريات، فترك بلداناً ليبية كثيرة ببنية تحتية متهالكة، زادتها حروب الأهل بعد ذلك دماراً.

وثّق الجو الليبي السياسي والاجتماعي الكئيب، عدداً من الأعمال الأدبية الليبية المتميزة، التي لم يكن بالإمكان أن تخرج إلى النور لولا ترك أصحابها التراب الليبي أو بعد اختفاء «حكم العقيد».

في الذهن عملان أدبيان لشخصيتين ليبيتين شرحا ذلك الوضع القمعي في المجتمع الليبي وقت «الأخ العقيد»، أولهما رواية «خبز على مائدة الخال ميلاد» لمحمد النعاس، وهي رواية تشرح ملحمة الصراع لبعض المهمشين في المجتمع الليبي مع الدولة «اللادولة»، وكيف تضرروا حتى «في المخبز المتواضع» من شعار طفوليّ «شركاء لا أجراء» الذي استطاب بعض المروجين أن يقنعوا به الأخ العقيد، فحتى المخبز وجب تأميمه.

أما الرواية الثانية فهي للروائية نجوى بن شتوان، الليبية من أصول يونانية، في المجتمع الليبي متعدد الإثنيات، واسم الرواية «كونشرتو قورينا إدواردو». وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العربية للرواية العربية أبوظبي. و«كونشرتو» هو صنف من التأليف الموسيقي تقوم آلة واحدة «أو أكثر» بالدور الرئيسي للمعزوفة فيه، وبقية الفرقة كلها تعمل «سنّيدة» أي ملتحقة بتلك الآلة، أما إدواردو فهو اسم عَلم مذكر، أما «قورينا» فهي مدينة ليبية في الشرق تُعرف اليوم باسم «شحات». وباختيارها ذاك العنوان للرواية، تترك انطباعاً مباشراً للبعد السياسي في الرواية.

المؤلفة ضاقت بها بلدها فأصبحت لاجئة في إيطاليا، وقد فازت كامل أعمالها مؤخراً بجائزة أدبية إيطالية مرموقة. أما الإسقاط السياسي للرواية فهو توصيف «الحال المتردي للمجتمع الليبي» تحت «قيادة قائد الثورة وزعيم الجماهيرية وملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين»! في فترة سابقة وفي أثناء الثورة «الثقافية الليبية» قُدمت المؤلفة للتحقيق بتهمة ملفَّقة هي «ازدراء قيم الجماهيرية»! فقط لأنها تكتب خارج «الجوقة».

الخسف الذي أصاب مدينة درنه الساحلية، وقد كانت فيما قبل «الزعيم القائد» أيقونة الثقافة الليبية، جلبت تلك الذكريات التي يتحول فيها «شخص» مع «مجموعة صغيرة من العازفين على منواله» إلى تدمير بلد كامل، وعلى رأس ذلك التدمير، التدمير الثقافي. يتحول المجتمع فيه إلى قسمين أقلية «مخبرين» وأكثرية «مُخبر عنهم» تملأ الخوف في القلوب، وتبدد الثروة باسم الثورة، تلك المرحلة السوداء في ليبيا حجبت كل أو معظم الإبداع الليبي، وعطلت التفكير الحر، واختصرت البلد في شخص «القائد الملهم» الذي يقبّل يده «حتى رئيس وزراء إيطاليا الأسبق» سيلفيو برلسكوني، صاحب التاريخ «الصاخب» مع «الأخ القائد».

ذلك العمر المسروق من الليبيين، أي أربعون عاماً من التجارب الآيديولوجية الفاشلة، وخراب المؤسسات وتراجع العدل، والاستهتار بحقوق الناس... شلَّت المجتمع الليبي، وشتَّتت نخبته، وتوارى أهل الرأي، إما في الشتات في المنافي، وإما في القبور غير المعروف أصحابها، وهكذا تفعل القيادات فاقدة المشروع الوطني الحضاري.

وعندما انتهى ذاك الرعب الأسود، خلف الفوضى العارمة، تقاتل بعض من كان مع الأخ القائد، مع من كان ضده في العلن أو السر على التركة المهشمة، نتج من ذلك الصراع ليس «ملكاً واحداً» بل عدداً من الملوك يصعب عدّهم، استدعى بعضهم قوى من الشمال والغرب والشرق، من أجل إعانتهم على الاستحواذ على تركة «الأخ القائد»، وفرَّخت ليبيا ثلاثة رؤوس لحكومات متنازعة! وترك الشعب يلعق العلقم وببنية تحتية متهالكة!

ما حدث لأهل درنة في المستوى والعمق هو نتيجة لهذا «المرض الليبي»، مرض الديكتاتورية والجهل السياسي معاً، وكل ما يقال عن احتمال «خروج ليبيا» من المأزق، هو في المنظور القريب، شيء من المحال. فبمجرد أن تتراجع الصدمة الأولى من «دانيال» الرهيب، ويُدفَن الموتى، فإن الفرقاء المتناحرين سوف يعودون من جديد، بين مشروع عسكري وحتى مشاريع عسكرية، وبين ساسة مدنيين شرهين، وقوى ظلامية من الإسلام الحركيّ، ولن يستطيع المبدع الليبي تحت ذلك الثلاثي الشره للسلطة والثروة أن يتنفس إلا في الخارج، كما يفعل كثيرون اليوم.

بيت القصيد، أن الشمولية الأحادية مهما رفعت من شعارات فهي شعارات مضللة بل كاذبة، وقد تجد لها مروجين انتهازيين، يقفزون من السفينة أول ما تهزّها الأمواج، ويلتحقون بالقائد الجديد، أما الوطن فهو آخر همّهم.

سوف تظل هذه الشعوب المغلوبة على أمرها نهب التطرف الآيديولوجي؛ إما «قائد ملهَم لا عقل له، وصاحب شعارات زاعقة» وإما «مجموعات مسلحة ميليشياوية». الدرس الأهم الذي نخرج به من روايتَي نجوى شتوان، ومحمد النعاس، إضافةً إلى ما دمَّره «دانيال» الرهيب، أنه من دون الحرية للناس لا تستطيع الشعوب أن تتقدم، حيث لا يسمح لها نقد واقعها، وسوف تبقى نهب التضليل أو مكاناً للتدمير أمام أشكال «دانيال الرهيب» أو «الرئيس الأوحد»!

ويكفي ما نشاهد حولنا في العراق ولبنان وسوريا واليمن، حتى نعرف أن «الشعارات» وإن اتخذت أشكالاً مختلفة فهي قادرة على تدمير الشعوب والقضاء على مستقبلها لأنها ببساطة تغيّب واقعها.

آخر الكلام: الحرية تحتاج إلى قواعد قانونية توفر لها الحماية في مجتمع مدني وحديث.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

درنة ومخلفات الأخ القائد درنة ومخلفات الأخ القائد



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان
 العرب اليوم - غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 08:50 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 العرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 العرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية
 العرب اليوم - واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 19:28 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 09:52 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تشوّق جمهورها لمسرحيتها الأولى في "موسم الرياض"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab