بقلم : د.محمد الرميحى
بعد أيام قليلة سوف يذهب المواطنون في الكويت إلى صناديق الانتخاب، من أجل إنتاج المجلس الجديد في تاريخ التمثيل السياسي، الانتخابات التاسعة عشرة منذ الأولى عام 1963 بعد أزمة طويلة من الانسداد السياسي.
السؤال المهم: هل تُقلب الصفحة بعيداً عن الممارسة السياسية التي أنهكت المجتمع الكويتي، وتراجع في معظم مؤشرات التنمية؟ أم أن الأمور سوف تبقى كما هي في الممارسة؟
لا جدال أن إصلاحات بشكل ما قد حدثت في الأشهر القليلة الأخيرة جعلت الكثيرين من المتابعين يذهبون إلى التفاؤل، إلا أن معظم المؤشرات تذهب إلى التوقع أن «الأمور العامة سوف تبقى في الغالب كما هي».
تلك القراءة السالبة ليس لعدم وجود نيات لدى بعض المسؤولين والمرشحين في الإصلاح، وليس إلى نقص في الموارد والرجال (والنساء) القادرين على الإصلاح، ذاك متوفر، ما ينقص هو فقر الساحة في القراءة الصحيحة للتحولات الاجتماعية، وعدم اعتراف بالأدوات المناسبة للإصلاح في ذهن اللاعبين الأساسيين.
صلب القضية القول الشامل إن «لا قداسة للنصوص السياسية» هذه الجملة البسيطة لم تُسمع من أحد المرشحين حتى الآن. من السذاجة افتراض أن ذلك الأمر هين أو يسير لأسباب كثيرة خِيض فيها أكثر من مرة، ولكن الإشارة إلى افتقاد حاد للتأشير على القضايا الكبرى، وقد خلا منها النقاش، حتى للجادين من المرشحين، يدل على أننا بعيدون عن القبض على النقاط المفصلية التي تحتاج إلى زيارة، وطرحها للنقاش، جل همهم التنديد بـ«حيازات زراعية وشهادات مزورة» وما يمثلها، وجميعها نتيجة وليست سبباً في الأزمة المستحكمة ومظهرها «المراوحة في المكان».
«قدسية النصوص» يتبناها البعض حتى فيما هو ممكن وسهل نسبياً، وهو سلسلة من التحسينات الواجبة على هيكلية العمل السياسي، منها قانون الانتخاب الذي يتوجب أن ينظر إليه بجدية في سبيل أن يكون أكثر عدالة في التمثيل، ومنها عدد الدوائر مقروناً بعدد الناخبين، من أجل توازن أفضل في التمثيل، ومنها اللائحة الداخلية للمجلس، التي يتوجب أن تطور، ومنها ما كتب عنه كثيراً لأهميته وهو «لجنة القيم في المجلس»، التي تراقب داخلياً سلوك الأعضاء، والتي كثيراً ما يشتكى من انحراف بعضهم عن الفضائل، منها إنشاء المنابر السياسية، للعبور من الفردية والذاتية إلى المؤسسية، ومنها استقلال القضاء مع رقابة داخلية صارمة.
تلك الحزمة من الأفكار غائبة كلياً عن النقاش الذي تضج به الساحة الانتخابية، وينحصر النقاش في القضايا الفرعية (على أهميتها) لن تقدم كثيراً في العمل السياسي.
الوضع القائم هو أن يقرر شخصٌ ما أنه «مناسب كي يكون عضواً في المجلس»، فيستند إلى قدراته الشخصية مع تعميد من «العائلة، القبيلة، الطائفة أو الإسلام الحركي»، والبعض على المال السياسي، ويدخل الجميع في سباق لبيان «مساوئ الحاضر» من دون اقتراح البدائل، ويتصور المرشح، وأيضاً مؤيدوه، أنه «المصلح القادم». حقيقة الأمر أن قدرته واقعياً على الإصلاح إما معدومة أو في أفضل التوقعات محدودة، لأنه «فرد»، وأجندته خاصة. من دون الحديث الجاد عن «إنشاء منابر أو تكتلات» لها أجندة واضحة في الإصلاح الهيكلي المشار إليه آنفاً، لن يستطيع العضو فعل أي شيء له قيمة، كما أثبتت التجارب السابقة، إلا من تحقيق مصالح شخصية.
من المفارقات السماح لمجموعات «الإسلام الحركي بفرعيه» بالتنظيم مما يؤثر في القرار بأكثر من حجمها المجتمعي، ويُسير الدولة باتجاه التقليد لا التحديث، إلى درجة الترويج لوثيقة يصر أصحابها «حراس النيات» على الوصاية على المجتمع، وتقييد حركته، لإنتاج شكل «قندهاري» من المجتمعات.
عجز الإدارة التنفيذية عن الإصلاح من جهة أخرى أساسه عاملان؛ عدم وجود المعلومة المركزية الدقيقة من جهة، وعدم وجود المشروع من جهة أخرى؛ في الأولى من أجل إنتاج سياسة عامة فعالة يتوجب أن تعتمد على «جودة المعلومات التي يمتلكها صاحب القرار»، ومن ممارسة لصيقة، فإن القول إن غياب «جودة المعلومات» هو حقيقة تتمثل نتائجها في القرارات السريعة التي تتخذ، ويتبين خطأها بعد حين، سواء في تعيين الأشخاص، أو رسم السياسات أو في تنفيذها، أو حتى في المفاصلة بين السياسات، وتفتقد الإدارة التنفيذية والتشريعية على السواء إلى «مراكز بحث» أو مؤسسات تفكير، أو ما يشبهها، أما فقدان المشروع «البوصلة» فهو متوفر في مظاهر عديدة، منها ما هو حجم السكان الأمثل في المجتمع (التركيبة السكانية) المرادة؟ ما هي التقنية التي يتوجب أن تستحدث لجعل حياة الناس أسهل في إدارة أمورهم؟ أو ما هي بدائل الاقتصاد الريعي؟ أو ما هي سوية التعليم وكفاءته لتنسجم مع متطلبات المستقبل؟ أو سوية الخدمة الصحية للمواطن، مع تصاعد نسب التلوث.
في الحديث لدى الجادين من المرشحين يشار إلى «الفساد» تكراراً، من دون تحديد أو تفكيك المصطلح، فهو كما استقر الرأي ليس فقط «الحصول على المال العام بطرق غير شرعية». الفساد بمعناه العام هو «استخدام سلطة لتحقيق مصلحة» في هذا التعريف الذي يتسع إلى مدخلات كثيرة في الفساد، فاستخدام العضو لسلطته لابتزاز جهاز تنفيذي هو فساد أيضاً.
الإدارة العامة في الكويت تعاني من ثقل ضخم من البيروقراطية، وقد تم الاقتراب لحل مشكلاتها من خلال «تضخيم الأجهزة الرقابية»، وهو الاقتراب الخطأ من هكذا مشكلة، والبديل ثلاث كلمات أصبحت معتمدة في الإدارة الحديثة هي «تفويض، مراقبة، ومعاقبة»، على أن يكون المفوض في البداية لديه قدر كبير من النزاهة والاستقامة، وذلك تتبعه أيضاً المعادلة الصعبة في أن يتولى العمل العام من هو قادر ومؤهل، أي الفصل بين «الكفاءة والولاء»، والدراسات المتوفرة من مجتمعات مماثلة تؤكد لنا أنه يمكن أن يتوفر الولاء في الكفاءة كثيراً، ولكن لا يمكن أن تتوفر الكفاءة في الولاء إلا نادراً! فاختيار الكفاءة هو الأسلم من معضلة محاباة الأقارب، وتركهم جهلاً يتحكمون في مقدرات المجتمع. في غياب كل ذلك سوف يكتب في الصفحة نفسها، وإن بحبر مختلف، ولكن لن تحقق النقلة النوعية المرغوبة في الانسجام والتنمية.
آخر الكلام:
هناك ظاهرة «إدمان» على الكرسي الأخضر، وحتى توريثه، يصعب فهمها، إلا إذا افترضنا أن الهدف تحقيق المصالح الخاصة على الخير العام.