بقلم : محمد الرميحي
كمٌّ كبير من التعليقات التي أعقبت إعلان الاتفاق السعودي - الإيراني، الذي وُقّع بمشاركة نشطة من الصين. ومن الطبيعي أن يجلب هذا الاتفاق كل هذا الكم من التعليقات، بعضها تشعر أنه محاولة للشرح، وبعضها الآخر تشعر أنه محاولة للتضليل.
من لديهم المعرفة استقبلوا الاتفاق بقبول متحفظ، وأشاروا إلى أن المنتظر هو خطوات إيجابية من قِبل النظام الإيراني، المتفق عليه أنَّ المملكة العربية السعودية ليس لها أطماع في إيران أو غير إيران، وكل ما يقال عن تدخلاتها جهراً أو غمزاً، هو تخرصات وتزييف للحقائق، وأصبح المتابع الفطن محصناً ضد تصديقها.
على الجانب الآخر، ليس سراً ولا هو حتى مخفياً تدخل الجارة إيران في العديد من الدول العربية، الظاهر منها اليمن ولبنان وسوريا، والباطن عدد آخر من الدول، من بينها دول الخليج، بل في بعض الأوقات جهراً بالفخر لبعض السياسيين الإيرانيين أنهم على مقبض من عدد من العواصم العربية!
إنما السؤال (الذي هو سؤال المليون)، إن صح التعبير، هل تُغير إيران توجهاتها وتبدّل وجهة أشرعتها، بعد أن وجدت صعوبة في تغيير اتجاه الريح؟
البعض يرى صعوبة في ذلك، لأسباب أصبحت معروفة، أن لإيران شهية إلى الجانب الغربي (العربي)، إلا أن ذلك التصور أو الاستنتاج ربما يكون متسرعاً، فمهما قيل عن «تصلب النظام» وهو صحيح لأسباب تاريخية وآيديولوجية، إلا أنه في الوقت نفسه إذا وجد أن الربح في خطوة ما مهما عظمت، أكبر من الخسارة، فليس صعباً عليه.
والعالم يحبس أنفاسه في عام 2002 وتتصاعد نسبة الصراع بين نظام صدام حسين وقراءته العمياء للتطورات العالمية، وبين التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، توجس النظام الإيراني شراً، وكانت الحكمة السائدة لديه أن الولايات المتحدة وحلفاءها في ذلك الوقت، «سوف تتغدى بنظام صدام حسين، وتتعشى بالنظام القائم في طهران»، بل إن مبادرات صدام حسين في ذلك الوقت تجاه إيران كانت باتجاه التحالف ضد «العدو المشترك»! فكان أن بادرت شخصية دبلوماسية خليجية بالتوجه إلى طهران وشرح مهمة القوات الدولية، والطلب من إيران أخذ موقف «محايد إيجابي» من التطورات المتوقعة في المنطقة، مع التأكيد من خلال عدد من «الإثباتات» أن نظام طهران لن يُمس و(القصة طويلة وليس الوقت لكتابة التفاصيل)، إلا أن نظام طهران عندما تأكد، وقُدمت له الدلائل الحسية القاطعة، تحول إلى ما اقترح عليه بأن يأخذ «الحياد الإيجابي» في الصراع، بل وصرف النظر عندما بدأت المعركة عن طلعات طيران من خلال أجوائه.
في وقت لاحق استفادت إيران من إطاحة نظام صدام حسين حتى أكثر من استفادة معظم العراقيين.
الافتراض الذي يتبع تلك القصة ونتائجها في عام 2002 «أنه إن وجد النظام الإيراني فائدة ما في اتخاذ خطوة سياسية» قام بها؛ لذلك فإن الوفاق مع المملكة العربية السعودية وتبريد الساحات العربية ولو تدريجياً هو كما يراه النظام قد يصبّ في صالحه، حيث إن الخسارة في المشروع الآخر باتت بيّنة. ولم يعد فيها متسع من أوراق المناورة.
مثلاً، السباق نحو تسلح نووي، لقد وجد النظام حتى (في حصوله على سلاح نووي) لن يفيد مشروعه، بل على العكس يفتح باباً لمعظم دول العالم لعدائه، عطفاً على استحالة واقعية لاستخدام ذلك السلاح، فلن يستطيع استخدامه ضد إسرائيل مثلاً؛ لأن ذلك سوف يقيم «القيامة» في المنطقة، كما أن وجود ذلك السلاح لا يعني بقاء النظام أو تغييره.
الاتحاد السوفياتي كان مسلحاً حتى أسنانه بالنووي وبعد هزيمة أفغانستان بسنتين تغير النظام.
باكستان نووية لم يمنع ذلك من تغير النظام، وأخيراً الاتحاد الروسي وحربه في أوكرانيا لم يستطع، رغم الصعوبات، أن يستخدم شيئاً من ذلك السلاح.
بجانب ذلك، فإن ملف الوضع الاقتصادي في الداخل وصل إلى المنحنى الخطر، وسقطت شريحة واسعة من الشعوب الإيرانية تحت خط الفقر، وتعثرت مستويات المعيشة للباقين إلى حد السُّخط، بجانب أن المشاركة بالسلاح في حرب أوكرانيا جلبت الغضب الأوروبي، حيث إن ذلك تدخل في أمن القارة.
في العراق واضح أن هناك تياراً يتسع لمقاومة النفوذ الإيراني، ولم يبق إلا القليل من العراقيين المنحازين، ورغبة واسعة في بناء عراق مستقل وأيضاً غير معادٍ، ولكن معتمد على عمقه العربي.
أما في سوريا ولبنان، فقد تبين لشرائح واسعة من السوريين واللبنانيين كم حجم الأكذوبة في موضوع «المقاومة»!
تلك بعض الملفات الشائكة والتي لا شك تنظر إليها المجموعات العقلانية في طهران، ويتساءلون بعد أربعين عاماً وأكثر: ماذا تحقق للشعوب الإيرانية؟ كما ينظرون إلى الجوار فيجدون الكثير مما تحقق ويتحقق في محالات التنمية المختلفة، وعمارة الأرض.
فمن الطبيعي بعد أربعين عاماً أن تجري المراجعة، وفي الحقيقة فإن البعض مثل رفسنجاني وخاتمي حاولا ولكن التيار المتشدد أفشلهما، على أساس أن لديه «خطة أفضل»، وتبين أن تلك الخطة هي الأسوأ ليس للمجتمعات التي تم التدخل فيها، ولكن وهو الأهم للمجتمعات الإيرانية التي تنامت لديها النزعة إلى الرفض ووضعت المشروع برمته موضع التساؤل.
الوفاق والسلام واحترام استقلال الدول وعدم التدخل في شؤونها، سوف يعود على إيران بأكثر كثيراً مما حصدت من فكرة «تصدير الثورة»، مواطنوها يمكن أن يدخلوا مرحلة الاستقرار، كل ما عليها تغيير اتجاه الأشرعة، حيث ثبت بما لا جدال فيه أنها لا تستطيع تغيير اتجاه الريح.
آخر الكلام:
كتب أحد المنشقين السوفيات قبل سقوط الاتحاد السوفياتي بسنوات قليلة يعجب أن بلاده تصنع الصواريخ وتخزن الرؤوس النووية، ولكن ما زال فلاحوها يحصدون غلتهم بالمنجل! ما أشبه ذلك بما يحدث في إيران!