جوردانو برونو نار العقل التي نعيش بضوئها

جوردانو برونو... نار العقل التي نعيش بضوئها

جوردانو برونو... نار العقل التي نعيش بضوئها

 العرب اليوم -

جوردانو برونو نار العقل التي نعيش بضوئها

بقلم - عبد الرحمن شلقم

يتجمع المواطنون الإيطاليون من كل أنحاء البلاد حول تمثال جوردانو برونو بميدان (كامبو دي فيوري) بوسط العاصمة الإيطالية روما دون انقطاع. السياح القادمون من مختلف بقاع الدنيا يلتفون حول التمثال، ولا يتوقف الازدحام حوله للتصوير. هذه الجموع تزور زمنا مضى، لكنه في ذات الوقت لا يزال حيا شاخصا، ينظر إليهم كما ينظرون هم إليه. هنا أحرق العالم العبقري والفيلسوف الكبير جوردانو برونو حيا. إنه زمن تسكن فيه ملحمة لا تغيب خاضها العقل، مقتحما حصون الجمود والجهل المقدس. جوردانو برونو نور النار الذي يعيش مع كل البشر إلى اليوم في دنياهم الواسعة المتجددة.
هو في أحشاء الهاتف الثابت والمتحرك الذي نحمله أينما حللنا، وفي البراد والكهرباء والطائرة والقطار وجهاز التكييف وجهاز الكمبيوتر والتلفزيون وكل الأدوية وفي الطرق المعبدة وفي المصانع التي تنتج كل ما يستهلكه الإنسان اليوم. ولد هذا الإنسان النار والنور سنة 1548 بمنطقة نابولي الإيطالية، ودرس الفلسفة والرياضيات والعلوم الدينية والأدب والفلك. بدأ حياته راهبا بدير الرهبان الكاثوليك. اندفع الشاب جوردانو إلى دنيا المعرفة، وعاش في مكتبة الدير التي احتوت على الكتب الإغريقية واللاتينية والعبرية والعربية. غاص في عالم الفلسفة، ودرس أفلاطون وسقراط وأرسطو، والفلاسفة العرب وفي مقدمتهم ابن رشد وابن سينا والأفكار الغنوصية والعبرية القديمة. صار عقل الشاب جوردانو حقلا زرعت فيه بذور الشك ونمت لا نقول حديقة، إنما غابة من الأسئلة، وكان الشك هو الثمار التي بدأت تملأ رأسه، وانهمرت أسئلته على أساتذته، وبدأت ملحمته الطويلة الرهيبة في مواجهة التفكير اللاهوتي الكنسي المتحجر. قرع أساتذته في وجهه نواقيس الإنذار والوعيد، وكان رنينها الحارق في رأسه أعلى من نواقيس أبراج الكنيسة، قالوا له بلغة لاتينية فصيحة صريحة: لقد تجاوزت يا جوردانو الخطوط الكهنوتية الحمراء. أسئلة العقل تعيد بناء الجسم، وتعصف بكيان المفكر، فتصبح حواسه وكل ما فيه، روافد تدفق في نهر رأسه. ساقته قدماه المتسائلتان إلى رحاب أوروبا بحثا عن إجابات لثورة عقله المتوقد. خلع رداء الرهبنة، وتوجه إلى سويسرا للتعرف على المذهب البروتستانتي، علّه يجد فيه إجابات ترشُّ بردا على عواصف عقله الحارقة، لكنه غادرها بعد أن لم يجد بها جديدا. زار الشاب الفيلسوف الفلكي كلا من فرنسا وألمانيا، ومارس التعليم، ورفع صوته العالي منتقدا المنهج المدرسي ( السيكولائي)، وفنَّد آراء أرسطو حول الكون، وأيد افكار كوبرنيكوس الفلكية التي تقول بدوران الأرض حول الشمس. يا له من شاب لم يعد يرى أو يسمع إلا بعقله. لقد شرع يجمع بيديه حطب ناره القادمة التي تنتظره في روما. سارعت الكنيسة الكاثوليكية بإلباسه رداء الهرطقة وبدأت ملاحقته الطويلة.
لم يكتفِ الفيلسوف الفلكي بالحديث الشفهي وهو يعلم طلابه بل بدأ يكتب، ونشر كتابه -في العلة والمبدأ الواحد- في ألمانيا، والذي صار من أهم روافد أفكار الفيلسوف باروخ سبينوزا بعد ذلك، كما شرح نظرية كوبرنيكوس. هاجم جوردانو بقوة أفكار أرسطو، ولم يخفِ عداءه بل كراهيته له ووصفه بالحرباء. ونشر جوردانو قصائد شعرية ومسرحيات تسخر من الأفكار الكهنوتية التي تحارب العقل وأفكار الحرية. لقد كان شجاعا هجوميا لا يخاف ولا يتردد في الإعلان قولا وكتابة عما كان يؤمن به. المفارقة الغريبة أنه تنبأ بنهايته، إذ نشر قصيدة قال فيها، إنه أكثر قربا إلى الله من كل القساوسة، وإنه ينتظر لقاءه بشوق العاقل. امتلأت روحه بقوة الإيمان بالله وحتمية المصير الذي كتبه له. ألقى غبار التردد والخوف من كيانه ووجدانه، فعندما اتصل به صديق إيطالي قديم ودعاه للعودة إلى بلاده ووعده بتقديم مساعدة مالية كبيرة، وترتيب لقاء مصالحة مع البابا، وافق جوردانو برونو وشدَّ رحاله إلى روما. وضع بعد وصوله مباشرة في السجن لمدة سنتين وتعرض لأقسى أنواع التعذيب. نُقل من السجن لمقابلة بابا الفاتيكان، الذي طلب منه التراجع صراحة عن كل أفكاره التي أعلنها قولا أو كتابة، ووعده إن فعل برغد العيش الذي يفوق الحلم، وإن لم يفعل فإن النار هي مصيره المحتوم، وستكون نهايته الحرق وهو حي يتنفس ويرى أمام الجموع في قلب روما.
كان ذلك اللقاء بين جوردانو برونو وبابا الفاتيكان، معركة بين عصرين وزمنين بل وقدرين.
زمن الظلام وزمن النور. قال برونو في رده العاصف على البابا: أيها البابا، كلُّ ما قلتُه هو من إبداع عقلي الذي وهبني إياه الله، ولن أتراجع عنه أبدا، ولتفعل ما تريد. شكل البابا محكمة تفتيش عاجلة، وأصدرت حكمها بحرق جوردانو حيا أمام الجموع بوسط روما بعد أن يُقطع لسانه. سيق الفيلسوف الشاعر الأديب الفلكي إلى وسط المدينة، وتُلي الحكم عليه أمام الجمع الغفير الواجم. بعد تلاوة الحكم نظر إلى قضاة المحكمة ورفع إصبعه وقال لهم بصوتٍ عالٍ وبشجاعة عاصفة: وأنتم تنطقون بهذا الحكم باسم إله رحيم وعادل، تشعرون بخوف ورعب، أكثر مما أخاف أنا، قبل أن يقطع لسانه. تدافع الرعاع يلقون الحطب أسفل العمود الذي علق عليه الفيلسوف وأصواتهم تتعالى بالشتائم ضده، وهو ينظر إلى الجميع بهدوء وثبات. بعد وقت قليل صار جسمه رمادا.
في ذلك المشهد الرهيب، حُرق زمن، ودُكَّ عصر لينهار حصن بني من الإسمنت المسلح حول جنان العقل الإنساني المفكر المبدع. جسد برونو وعقله في ميدان كامبو دي فيوري، أوقدت نار العقل العاتية التي أشعلت نور العقل في الفكر والفلسفة والعلم، وفتحت الطريق لإنسان جديد بقوة جديدة، وتدفقت أرتال الفلاسفة على مدى القرون اللاحقة، وفتحت المختبرات والجامعات، وانتصر العقل الذي لا يحمل سيفا ولا رمحا ولا مدفعا على المشانق والمحارق. لولا الفذ جوردانو برونو وناره ونوره لكان كهف الظلام والتخلف إلى زمن مرعب طويل. إنه النار التي نعيش اليوم بفضل نورها.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جوردانو برونو نار العقل التي نعيش بضوئها جوردانو برونو نار العقل التي نعيش بضوئها



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 08:50 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 العرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية
 العرب اليوم - واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة

GMT 08:32 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab