الذين كفَّروا الحبيب بورقيبة

الذين كفَّروا الحبيب بورقيبة

الذين كفَّروا الحبيب بورقيبة

 العرب اليوم -

الذين كفَّروا الحبيب بورقيبة

بقلم : عبد الرحمن شلقم

تونس البلاد العربية الشمال أفريقية يمكننا أن نطلق عليها «الظاهرة المتحركة». بلد صغير على الضفاف الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، لكنه نسج علاقة خاصة مع البشر والتاريخ مبكراً؛ من حضارة قرطاج الفينيقية ومعارك حنا بعل مع روما، ودولة الأغالبة التي سيطرت على البحر الأبيض المتوسط، وانطلاق الدولة الفاطمية التي أسَّست قوة ضاربة هيمنت على بلدان تفوق مساحة تونس مرات، وقامت على مذهب ديني إسلامي جاء من خارج القارة الأفريقية.
كانت القيروان مركزاً للقوة والعلم، وحتى بعد الاحتلال العثماني، حافظت البلاد التونسية على حيويتها الفكرية، وقدمت للدولة العثمانية عقولاً وقيادات بارزة في كل المجالات.
كثير من الدارسين والمؤرخين قالوا: لو استمع سلاطين الباب العالي العثمانيون مبكراً إلى نصائح خير الدين التونسي، وعملوا بالإصلاحات التي دعاهم إلى الأخذ بها، لكانت الحبل الذي أنقذ الإمبراطورية العثمانية من الغرق في بحر عالم جديد يتخلق بسرعة وبقوة. قبل ذلك بسنين طويلة، كان ابن خلدون العلامة الكبير الذي شخَّص حركة الناس في المجتمعات وفي مسارات التاريخ. في تونس لا يغيب الفكر والجرأة على الولوج إلى مكامنه التي يتهيَّب كثيرون الاشتباك معها في أغلب البلدان العربية والإسلامية. كانت تونس البلد الأول في العالم العربي الذي كتب دستوراً، ووضع قوانين اجتماعية حديثة جريئة من عهود البايات.
في مطلع القرن العشرين، كانت البلاد التونسية تحت الحماية الفرنسية، بعد ما عُرف بـ«اتفاقية باردو»، لكن السيطرة الفرنسية لم تكبح قوة العقل والفكر.
المثقف عبد العزيز الثعالبي أسَّس حزباً إصلاحياً، ودعا إلى اغتنام ما يمكن اغتنامه من الحضارة الفرنسية التي جاءت إلى تونس حاميةً لها باتفاقية مراوغة، وشارك في «مؤتمر فرساي»، بعد الحرب العالمية الثانية، ثم المثقف المفكر التحديثي الثوري الطاهر حداد، وكان الحبيب بورقيبة الزعيم السياسي الذي حوَّل أفكاره إلى تشريعات بعد توليه قيادة الدولة، بعد إزالة حكم البايات.
لم يكن الحبيب بورقيبة نبتة من فراغ في يباب، إنما كان شجرة في حقل تخلَّقت تربته مما صنعه مَن سبقوه، وعلى رأسهم عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد والشاعر أبو القاسم الشابي وغيرهم. لقد اجتمع هؤلاء حول مشروع واحد، وهو التحديث الشامل للمجتمع التونسي، وطرحوا أفكاراً كانت صادمة للمحافظين الدين يطلقون قذائف التكفير والتخوين على كل مَن يلقي حجر التجديد والتقدّم في بحيرة السكون الواسعة.
الأستاذ الدكتور شكري المبخوت نشر كتاباً بعنوان «تاريخ التكفير في تونس». ركزَّ فيه على حملة تكفير عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد والحبيب بورقيبة. تضمن الكتاب وثائقَ وخطباً وبيانات وقرارات وقوانين. الكتاب سرد تاريخي، جمع فيه المؤلف ما قدمه المُكفَّرون، وما واجههم به المكفِّرون. حاول أن يربط بين الحكم الشرعي، وما ذهب إليه المكفِّرون، ودوافعهم الحقيقية لما ذهبوا إليه، وحشد المؤلف أدلته الدينية والتاريخية والاجتماعية، التي واجه بها أصوات التكفير التي رآها مضادة لحرية التفكير وجهود التطور والتنوير والتحديث.
قال المؤلف الدكتور شكري المبخوت إنه شرع في تأليف هذا الكتاب بعد صدور الدستور التونسي الجديد، سنة 2014، ووقف عند الفصل السادس منه الذي ضمن حرية التفكير، ومنع التكفير، وجرَّمه، وأراد أن يتوجه إلى المواطنين الذين عاشوا حالة من الانفجار الفكري المتعدد. برزت موجة تكفيرية غير مسبوقة في تونس أدت إلى موجة اغتيالات، كان من أبرز ضحاياها محمد البراهمي وشكري بلعيد، وهما ناشطان سياسيان تنويريان، وكان هدفهما تكريس القوانين التي تنحاز إلى الحرية والتقدم.
الرئيس الحبيب بورقيبة كان هدفاً كبيراً لدعاة التكفير، لما قام به من سياسات تحديثية واسعة ومستمرة من أجل إقامة مجتمع مدني حديث. كان الحبيب بورقيبة تجسيداً لما قدمه مَن سبقه مِن المفكرين والمثقفين التنويريين، خصوصاً عبد العزيز الثعالبي والطاهر حداد. التكفيريون قالوا إن الطاهر حداد نقل أفكار المستشرقين اليهود، وإن عبد العزيز الثعالبي تأثر بفكر المستعمر الفرنسي النصراني. أما بورقيبة فقد قالوا عنه إنه خالَف ما هو معروف بالضرورة من الدين؛ فقد أصدر قوانين جديدة للأحوال الشخصية منع فيها تعدُّد الزوجات، وتضمن التطليق بدلاً من الطلاق، أي أن يكون الطلاق أمام المحكمة، وأراد المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث. ولم يتردد المكفِّرون في ليّ الوقائع والحقائق؛ قالوا إن الحبيب بورقيبة وقف خطيباً في شهر رمضان وشرب كأساً من الماء داعياً إلى عدم الصيام في شهر رمضان، في حين أن الوثائق تثبت أن ذلك الخطاب لم يكن في شهر رمضان، كما ادَّعوا أن الحبيب بورقيبة قام بخلع حجاب سيدة تونسية أمام جمع من المواطنين، والحقيقة أن الرئيس لم يخلع حجاباً، إنما سحب رداء السفساري، وهو رداء أبيض طويل تضعه نساء تونس فوق ملابسهن، ويُسمَّى في ليبيا بالفراشية.
قام الرئيس بورقيبة بإغلاق جامع الزيتونة، لأنه لم يقبل بأن يتحول هذا الجامع إلى مركز قوة ديني يفرض شيوخه أفكارهم على عامة الناس باسم الدين، وهم في الحقيقة يعملون من أجل مصالحهم، كما اعتبرهم بورقيبة.
المؤلف شكري المبخوت يرى أن الرئيس الحبيب بورقيبة كان تعبيراً عن طموحات جيل كامل سبقه أو جايله، وعن أحلام جيل تونسي يتطلع إلى بناء دولة جديدة تعمل على إقامة مجتمع حديث.
هناك مَن قال إن الحبيب بورقيبة استنسخ أفكار الطاهر الحداد الذي انشدَّ إلى ما قام به الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، الذي تجاوز الشريعة الإسلامية، وقام بتغريب تركيا.
وربطوه بأفكار سلامة موسى المصري. الطاهر الحداد كان خريج جامع الزيتونة، ولكنه طالَب بتغيير المناهج التعليمية في الجامع الذي درس به، مثلما فعل الإمام محمد عبده مع الجامع الأزهر.
اليوم تشهد تونس لغة تكفيرية جديدة، أي التكفير المقنَّع، كالقول بمخالفة ثوابت الدين، أو الخروج عن الشريعة، وغيرهما، لكن المؤلف يجزم في الخلاصة بأن التنوير سينتصر، وكلما ارتفعت الأصوات المعارضة له؛ فذلك دليل على قوته، وأن تونس قد سارت بقوة على طريق التحديث، ولن تتراجع عنه أبداً.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الذين كفَّروا الحبيب بورقيبة الذين كفَّروا الحبيب بورقيبة



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 04:28 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان
 العرب اليوم - تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة

GMT 01:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف مناطق إسرائيلية قبل بدء سريان وقف إطلاق النار

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab