هل أخطأ الفلسطينيون ومعهم بقية البلدان العربية، حينما لم يعترفوا بقيام إسرائيل فى ١٥ مايو ١٩٤٨؟!
نسمع هذا السؤال وهذه النغمة كثيرا هذه الأيام، بل إن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قال فى بدايات إعلانه لخطة أو صفقة القرن أنه «حان الوقت كى يصحح العرب والفلسطينيون الخطأ الكبير الذى وقعوا فيه عام ١٩٤٨، حينما لم يعترفوا بإسرائيل»!.
نفس الفكرة كررها جاريد كوشنر مهندس الصفقة ومستشار ترامب، حينما قال لبرنامج عمرو أديب «الحكاية» على فضائية «إم بى سى مصر» مساء السبت الماضى، إنه لو أن العرب اعترفوا بإسرائيل منذ عام ١٩٤٨، كان من الممكن تجنب كل الصراعات، التى حدثت، وسفك الدماء والتطرف الذين أعقبوا ذلك التاريخ!
ومن سوء الحظ أن هذا الكلام لا يقوله الأمريكيون والإسرائيليون فقط، ولكن بدأت بعض الأصوات العربية تردده بقوة فى الفترات الأخيرة. هؤلاء تحولوا جميعا إلى مدعى حكمة بأثر رجعى، فى حين أن الأمر ببساطة محض وهم وخرافة وأن ما نشهده الآن هو ان الطرف المنتصر او القاتل هو الذى يروى حكايته أو روايته، فى حين لا أحد يهتم بسماع وجهة نظر الضحية أو القتيل.
لو طبقا مقولة ترامب ومستشاره كوشنر على كل الصراعات المماثلة فى العالم، قديمها وجديدها، لانتهى الامر بشعوب العالم المغلوبة على أمرها أن تسلم وتقبل وتذعن لأى قوة عاتية متغطرسة، وتنسى أى شىء عن الحقوق والكرامة والاستقلال.
طبقا للمنطق الترمباوى فإنه حينما يقوم طرف قوى باحتلال دولة أضعف، فعلى هذه الدولة ألا تلجأ إلى عمليات مقاومة، بل تقبل هذا الاحتلال، حتى لا يتم سفك الدماء بين الجانبين!!
وطبقا لهذا المنطق فإن كل عمليات المقاومة التى قامت بها الشعوب فى العالم الثالث ضد القوى الاستعمارية، كانت عبثية، وأدت لسفك دماء الكثير من الناس، وكان ينبغى على هذه البلدان أن تقبل بما حدث، إلى أن تتعطف القوى الاستعمارية، وترحل، وتمنح هذه البلدان استقلالها.
وطبقا لهذا المنهج فإن ما فعله الفيتناميون فى مقاومتهم للاحتلال الأمريكى كان شيئا خاطئا، لأنه أدى إلى مقتل عشرات الآلاف وكان الأفضل والأصح بالنسبة لهم، عدم المقاومة والرضاء بالمقسوم!
وطبقا للمنطق نفسه، لم يكن على الأشقاء الجرائريين مقاومة الاستعمار الاستحلالى الفرنسى الذى دام ١٣٠ عاما، لأنه قاد إلى مقتل الكثيرين. ونفس الأمر ينطبق على الثوار الافارقة الذين قاوموا سياسة الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا لمئات السنين، حيث كان عليهم الترحيب بالمستعمر الأبيض، وان يظلوا يعملون عبيدا لديه، إلى أن يتكرم ويعفو عنهم.
بالمنطق الطبيعى فإن عكس فكرة ترامب وكوشنر وقادة الاحتلال الإسرائيلى هو الأصح.
لو أن إسرائيل لم تسرق أرضا وتسجن شعبا، وتحتل مساحات واسعة من أراضى عربية فى حرب ١٩٤٨، ما كانت هناك مشكلة. وسنفترض ان العرب رضوا بقرار التقسيم ونتائج هزيمة ٦٧، فان العرب رضوا وقبلوا على مضض. لكن اسرائيل اعتدت على كل العرب واحتلت كامل فلسطين وسيناء والجولان وغور الاردن فى ٥ يونيه ١٩٦٧، ولو عادت إلى حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، طبقا للقرارات الدولية. ما كانت هناك مشكلة.
ولو أن القوى الاستعمارية قديمها وجديدها، لم تحتل الدولة النامية فى أفريقيا وآسيا بحجج مختلفة وواهية، ما تم نهب ثروات هذه البلدان وتخلف شعوبها، ومرض أبناءها، وإفساد نخبتها!
ولو أن الأمور تدار طبقا للمنطق والحق والقواعد الأخلاقية، ما تحكمت الولايات المتحدة فى بلادن العالم بهذه الطريقة، وما تحول ترامب إلى فتوة الكرة الأرضية. بحيث يعطى من لا يملك من لا يستحق!
القواعد التى تحكم العالم الآن، هى قواعد القوة والتجبر، وليس العدل والانصاف أو حتى الشرعية الدولية، التى كانت أمريكا تقرها حتى أعوام قليلة مضت.
وبالتالى فكل ما نرجوه من ترامب وكوشنر وجرينبلات وديفيد فريدمان، أنهم وحينما يقومون بالوعظ فى الصراع العربى الإسرائيلى، أن يعترفوا بأنهم يطبقون منطق القوة، وليس العدل، وأنهم منساقون خلف الرواية التوراتية الصهيونية، وليس الإجماع العالمى بأن إسرائيل قوة احتلال سرقت أرضا وشردت شعبا.
لا يعقل بالمرة أن نحكم على الفلسطينيين عام ١٩٤٨ بظروف اليوم فى ٢٠٢٠. الفلسطينيون وقتها كانوا يعيشون فى أرضهم وداخل بيوتهم، وفجأة وجدوا محتلا يسرق هذه الأرض، فهل كان المطلوب وقتها أن يرحبوا بالمحتل أم يقاومون، ورغم أنهم قبلوا لاحقا بقيام دولتين، فوجئوا بأن إسرائيل تسرق الأرض قطعة قطعة، ولم تقبل بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. فماذا كان مطلوبا من الفلسطينيين والعرب أن يفعلوا أكثر من ذلك؟!