بقلم - عثمان ميرغني
المستشار العراقي قُصي محبوبة، ألّف كتابه بهذا العنوان وطرح فيه ما وصفه بصراع المفاهيم والشخصيات في الأمم والدول والمؤسسات.
الكاتب أعلن منذ البداية أنه سيكون شاهداً على صراع بين مفاهيم هي في الحقيقة متداخلة، وكانت مثار خلاف وبحث عبر قرون طويلة، خاض فيها الفلاسفة والمفكرون والمؤرخون منذ القدم، ولم تخلُ حقبة من مسيرة الإنسان الجماعية من الغوص في قضايا السياسة وما يكمن في خضمها أو يدور حولها. كتاب المستشار قصي هو رحلة في القراءة والتفكير والدراسة، امتدت من الفلاسفة القدماء الإغريق والرومان وغيرهم إلى المفكرين والساسة المعاصرين، مع وقفات في محطات الأحداث التاريخية الكبيرة التي عاشها العالم قديماً وحديثاً. قيمة هذا الكتاب تكمن في أنه إذ يقدم لنا أحداثاً مضت، يحفّزنا على التفكير في موضوع مهم لا يتوقف انشغالنا به، وهو كيمياء القيادة التي تُصنع وتَصنع في الحرب والسلام وفي التأخير والتطوير. كتاب مكثف يجمعنا فيه المؤلف مع رموز فكرية وفلسفية وإنسانية، أسهمت في تشييد بنية العقل الإنساني سياسياً قديماً وحديثاً. محور الموضوع هو شخصية القائد بين السياسة والسلطة والنفوذ. هذه المرتكزات الثلاث هي في الحقيقة متداخلة كمفاهيم ومفاعيل في خضم الحياة السياسية وغير السياسية. لقد دفعت الإنسانية ثمناً باهظاً جراء قرارات خطيرة اتخذها قادة، أدت إلى الحروب الصغيرة والكبيرة عبر التاريخ، كما كانت قرارات أخرى جسوراً إلى النهوض والتقدم في مراحل مشهودة في التاريخ الإنساني. وقف الكتاب عند عشرات الشخصيات التي لا نستطيع في هذا الفضاء المحدود أن نقف عندها جميعاً، لكن السياق الذي اختاره المؤلف يمكننا من انتقاء وقفات تجمع المشترك والمختلف بينها، وهذا ما يسوقنا إليه سؤال طرحه المؤلف في مقدمة مدخله إلى كتابه (لماذا القيادة؟ أجاب: تتشكل القيادة من مجموعة عوامل تتفاعل فيما بينها ضمن ما يُعرف بالمنظومة القيادية؛ لتكون المحور الذي يلتقي فيه أو تتفرق عنده كل الأحداث والتجارب والممارسات على كبر مساحة النشاط الإنساني بكل تفاصيله، والقيادة بمفهومها الشامل تتفرع منها مفاهيم مشتقة ومترادفة، كفنِ القيادة، وعلم القيادة، وصفات وسمات القائد، وكيفية القيادة تبعاً للبيئة وللظروف أو للأحداث التي تصنعها القيادة أو يواجهها القائد).
هكذا قدم لنا المؤلف قصي محبوبة تعريفه لمفهوم القيادة الذي سيكون محور الصراع المفاهيمي عبر مؤلفه الكبير. القادة اليوم ليسوا فقط أولئك الذين يجلسون على الكرسي الأعلى في الدولة، بل هم جميع من يمتلكون القرار في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية وغيرها. العقل هو الضوء الموصوف الذي ينير الطريق للفاعلين في جميع المجالات، واستشهد المؤلف بمقولة السياسي البريطاني ونستون تشرشل: إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقول، وقادة المستقبل هم قادة العقول. ولا أعتقد أن تشرشل قصد بقوله هذا، الإمبراطورية بالمعنى التوسعي الاستعماري، وإنما قصد المشروعات الأساسية الكبيرة في كل المجالات السياسية وغيرها. القائد في أي مشروع أو مجال هو حاكم، والحكم مشتق من الحكمة. والقيادة كما يقول المؤلف سيئتها القاتلة هي الغرور والعظمة، والحكمة فضيلتها الدائمة هي التواضع والتبصر.
أورد المؤلف صفات قيلت قديماً وحديثاً عن شخصية القائد ومكوناته ويسوق بعض الصفات التي يمتلكها القادة، ثم يقف عند أسلوب القيادة بإيجابياتها وسلبياتها.
«القيادة القرية»... وضع المؤلف هذا العنوان الفرعي لسطور طويلة كتب فيها: في هذا الأسلوب يكون الاهتمام بالأتباع في أقصى درجاته، بينما الاهتمام بالأهداف في أدنى درجاته، وهنا ينظر القادة إلى الأتباع على أنهم المصدر الأساسي لقيادتهم ومن خلال اهتمامهم الشديد بهم يأملون منهم أن يُحسّنوا أداءهم ومن ثم يسعون إلى تحقيق أهدافهم. ويضيف: لقد أُطلق على هذ الأسلوب، اسم القيادة الريفية كرمز إلى أن المجتمعات في الشرق والغرب تشترك في ميزة واحدة في مجال القيادة خصوصاً، حيث إن القائد يكون قريباً جداً من أتباعه ويخدمهم ويساعدهم على حل مشكلاتهم كنموذج شيخ القبيلة. أظن أن المؤلف وهو عراقي يتابع تفاصيل ما عاشته بلاده في زمنها القريب، كان مُنشدّاً إلى النموذج العراقي في القيادة الذي كانت فيه القبيلة هي الحزام الأمني للقائد.
يورد المؤلف أقوالاً لقادة متميزين تعبر عن رؤيتهم وأسلوبهم في القيادة وجلها تتمحور حول الحكمة والرؤية الوطنية مثل قول الفيلسوف الصيني توس لي، الماء أرقُّ شيء في الطبيعة، ولكن أحمق مَن يحاول أن يهزمه فقوته تكمن في سلاسته. وقال نيلسون مانديلا: في بلادي نذهب إلى السجون أولاً ونعبر وادي الموت ثانياً ونقهر الخوف الذي في داخلنا ويتغذى الدود من أجسادنا وبعدها نصبح قادة. ويستحضر المؤلف أسماء قادة كبار منهم ونستون تشرشل الذي قال إن العظمة ثمنها المسؤولية. هو مَن غيّر مسار الحرب العالمية التي انتهت بهزيمة هتلر الذي اعترف بدور تشرشل الحاسم إذ قال هتلر: لقد أعاقني اثنان، ونستون تشرشل وثلوج روسيا. ويعرض الكتاب محطات من قيادة الجنرال ديغول لفرنسا مقاتلاً ورئيساً ويورد مقولته: إنني لم أحرر فرنسا كي أكون ديكتاتورها.
في الأنظمة الديمقراطية يكون التغيير سلمياً، وجورج بوش الابن لم يكن قائداً وقوته كانت من قوة بلده لا من قوته القيادية كما يقول المؤلف، وهو يرى أن باراك أوباما صنعه جورج بوش وكان صعود أوباما إلى هام الرئاسة الأميركية بفضل غضب الأميركيين من نموذج بوش وقدرات أوباما القيادية.
الكاريزما المدمرة... هي نوعية معينة من الشخصية الفردية التي بموجبها يتميز الفرد على الناس العاديين ويتعاملون معها على أنها شخصية موهوبة وفوق مستوى الناس الآخرين، وتصل إلى حد اعتبارها خارقة، أو اعتبارها لها صفات محددة ولكنها صعبة المنال مما يخرجها من حدود الإنسان العادي إلى الإنسان الخارق، فينظر إليها الأفراد على إنها إعجازية. ويضيف المؤلف: الكاريزما العالية التي يمتع بها بعض القادة، كانت سبباً في نهجهم الاستبدادي ووصولهم إلى قمة الطغيان. ويعتبر أدولف هتلر وجوزيف تيتو اليوغسلافي وفيديل كاسترو وصدام حسين أمثلة على ذلك.
المسافة بين القيادة والطغيان كثيراً ما تكون قصيرة جداً، والطغيان يزرع الفساد ويدمر الأوطان ويهلك الناس. قال الله تعالى (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص 4.
أثار الكتاب قضية تاريخية ومعقدة. لم يعد لها وجود في أوروبا وأميركا ولا في آسيا وهي القائد، بينما عاشت طويلاً في المنطقة العربية، خاصة في الأنظمة الآيديولوجية. وأظن أن نجومها قد زالت مع ولادة جيل جديد بعقل جديد في عصر جديد.