سلاح الطعام

سلاح الطعام

سلاح الطعام

 العرب اليوم -

سلاح الطعام

بقلم - سوسن الأبطح

يتذكّر العجوز الناجي من وباء «الطاعون القرمزي» الذي قضى على الحضارة البشرية وأعادها إلى زمن الغابات والوحشية، بسبب جرثومة قاتلة، كيف كان وجه الحياة قبل ستين عاماً، ويروي ذلك لأطفال هم من بين القلة الذين نجا وإياهم، وعادوا جميعهم إلى لبس الجلود والتسلح بالقوس والنشّاب.

تدور أحداث رواية الأديب الأميركي جاك لندن هذه في عام 2073 بولاية كاليفورنيا، حيث الأستاذ الجامعي العجوز لا يزال يتذكر ويروي بأسى مأساة وباء حدث عام 2013، وكيف كانت حال البشر قبلها، قارئاً أهم ملامح تلك الحضارة المنقرضة. يقول العجوز متأملاً حوله، وقد عاد الكوكب إلى حالته البدائية: «أفكر، أحياناً، أن الإنجاز الأروع الذي حققته حضارتنا الضخمة هو الطعام، ووفرته التي لا تصدق، وتنوعه غير المحدود ومذاقه الرائع. آه يا أحفادي! لقد كانت الحياة حياة بحق تلك الأيام، حين كان لدينا تلك الأشياء الرائعة لنأكلها».

يكرر الراوي العجوز في «الطاعون القرمزي» أهمية وفرة الطعام لتحقيق الازدهار، وأن لا تطور من دون هذا الترف اللذيذ، ويرى أنه بالرغم من كل الأمراض التي ظهرت، كان عدد البشر يزداد، لا لشيء إلا بسبب سهولة الحصول على الأكل.

ونحن ننعم بالأضاحي ومآدب العيد، ونرى الإعلانات المرفهة في الدول الغربية، تعرض ما لذ وطاب من منتوجات ومبتكرات غذائية، نظن أن هذه الوفرة حقيقية ودائمة.

ومع أن جاك لندن كتب روايته العظيمة هذه عام 1912، أي قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحتى قبل الإنفلونزا الإسبانية القاتلة بست سنوات، فإنه بحدسه الرهيب تمكن من التقاط، أهمية دور الغذاء في تشكيل الحضارات وتحصين أمن بني البشر، وكيف أن الأزمات والأوبئة يمكنها أن تمحو إنجازات كبرى عن بكرة أبيها، وتجعلها كأن لم تكن.

فقد ظن الإنسان مع نهايات القرن الماضي أنه قضى على الجوع بمهارته وذكائه، كما ظنّ أيضاً أنه بدأ ينجح في محو الأمية وإلى الأبد، لكن مع بدء الأزمة المالية عام 2018 وحتى سنوات قبلها، بدا أن تأمين الغذاء لمليارات أهل الأرض مهمة تزداد صعوبة. وتفاقمت المشكلات مع جائحة «كوفيد»، وتعطلت سلاسل الإمدادات، وتكررت الإغلاقات، ثم جاءت الحرب الأوكرانية - الروسية، لتذكّر الجميع أن التقهقر أسرع مما يظنون، وأن تأمين الغذاء ليس دائماً بديهياً. ومع أن الأغذية قلّت وارتفعت أسعارها في كل مكان، فإن الخطورة الكبرى هي في القارة الأفريقية بسبب شح الصادرات الأوكرانية بعد الحرب؛ ما أثر على مليار أفريقي، بالإضافة إلى التأثير الأوسع على التجارة العالمية.

وتتهم روسيا أوروبا بأنها تستولي على الكمية الكبرى من الأغذية التي تسمح بتوريدها من أوكرانيا، حارمة منها الأفارقة، وتهدد بوقف تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية. ودهش العالم وهو يكتشف أن روسيا تؤمّن للبشر ربع حاجتهم من القمح، بعد مهاجمتها أوكرانيا، وأن معاقبتها وخنق صادراتها، هو مجاعة، وتعذيب وإفقار لكثير من الأبرياء. وفهمت روسيا مكانتها وقوة سلاحها الغذائي فعززته، وهي آخذة في تقويته مدركة أن الأغذية ستكون غداً أحد اكثر عناصر الحروب فاعلية وقسوة على أعدائها.

توجه أصابع الاتهام إلى روسيا اليوم، وتتهم بحرمان الفقراء من سلة الغذاء الأوكرانية، لكنها لم تبدأ هذه الحرب المقيتة، وتعددت الحروب الغربية التي لجأت إلى حرمان الشعوب من الغذاء للضغط على حكوماتهم، تحت مسميات مختلفة، من إيران إلى العراق وكوبا وحتى فنزويلا. وكلما قلّت الأغذية سهلت عملية التلاعب بها، وتحويلها إلى أسلحة متعددة الاستخدامات.

فكما في رواية «الطاعون القرمزي» يتضاءل الغذاء، في العالم، بسبب الكوارث المتلاحقة والتغيرات السريعة، ويصبح من يقبض على القمح والذرة ودوار الشمس، كمن يملك السيطرة على أبرز النقاط الاستراتيجية على الجبهة.

لم تتسيد أميركا العالم لمجرد أن لها الجيش الأقوى والاقتصاد الأكثر عافية وحيوية، بل لأنها كذلك المصدر الأول للمنتوجات الزراعية، وصاحبة الإمكانات الأوفر غذائياً، لكنها منذ ما يقارب السنوات الثلاث، تراجعت عن صدارتها كمصدرة للأطعمة تاركة هذا المكان للصين الدولة التي عانت عقوداً طويلة من الفاقة والمجاعات. ففي القرن العشرين وحده قضى ملايين الصينيين جوعاً وعوزاً، وهو ما يجعل تقدمها الصفوف في مجال الزراعة وتأمين حاجات السكان أمثولة تشبه المعجزة، وإلى جانبها تتقدم أوروبا والبرازيل، والمشكلات متعددة في أميركا من بينها نقص المياه، ما يشي بأنها لن تعود إلى مرتبتها الأولى قريباً.

وصارت الصين رائدة في إنتاج الأغذية ومتفوقة على غيرها، لأنها تمكنت بالفعل من تحقيق اكتفاء ذاتي استقلالي خالص؛ إذ بات من المعروف أن دولة تسعى لتحقيق أمنها الغذائي، عليها أن تكون قادرة على إنتاج البذور والأسمدة والأوعية البلاستيكية، والجرارات والمبيدات، وكل ما يلزم، ليصبح الطعام في الطبق، وهو ما تعجز عنه لغاية اللحظة غالبية الدول، على علمها بضرورة أن تقترب وبسرعة من الهدف.

في زيارة له لأحد حقول القمح في مارس (آذار) الماضي، قال الرئيس الصيني شي جينبينغ إن بلاده يجب أن تحافظ على مستوى 120 مليون هكتار، و33 مليون أخرى لا بد من إضافتها؛ فالسلة الغذائية للصينيين يجب أن تكون محلية بالكامل، الأمر الذي باتت الصين من الدول القليلة التي نجحت بإنجازه.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سلاح الطعام سلاح الطعام



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 18:57 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه
 العرب اليوم - العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات
 العرب اليوم - المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة

GMT 01:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف مناطق إسرائيلية قبل بدء سريان وقف إطلاق النار

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab