كاداريه وعقدة النقص

كاداريه وعقدة النقص

كاداريه وعقدة النقص

 العرب اليوم -

كاداريه وعقدة النقص

بقلم:سوسن الأبطح

لا يختلف اثنان على أن أنور خوجة الذي حكم ألبانيا أربعين عاماً بالحديد والنار، حوّلها إلى واحد من أكبر السجون وأشدها ظلماً. عذّب رجال الدين، العمّال، الكتّاب، المزارعين، الأغنياء، المعدمين. لم تفلت من سطوة خوجة، المتطرف في إلحاده ونقمته، حتى المساجد التي هدمها. أجبر رجالاً على الزواج من نساء لا يريدونهن، وأرغمهم على طلاقهن، حين أراد. أنزل عقابه على عائلات بأكملها يوم لم يرض عنها، فعزلها وحرمها طعم الضوء.

كل شيء كان ممكناً من الستاليني المجنون، الذي اختلف حتى مع الاتحاد السوفياتي في زمن خروتشوف، فأدار له ظهره، مفضلاً عليه ماوتسي تونغ.

لذلك يبقى السؤال محيّراً حول تسامح خوجة مع إسماعيل كاداريه، الذي غادرنا مؤخراً، في الوقت الذي كان أمثاله من الكتّاب المتبرمين، يرمون في زنازين حتى الموت. لم يفرّ هذا الروائي من بلده إلا بعد وفاة خوجة بسنوات. قيل الكثير عما عاناه من قمع، ومنع لمؤلفات، وتغيير في النصوص، لكنه بقي الطفل المدلل في رحاب الديكتاتور.

يعترف كاداريه في مقابلة له مع الزميل حسونة المصباحي: «نعم، لقد حماني أنور خوجة» مع أنه ابتكر نظاماً سياسياً مرعباً. و«قـــد قام بهذا بشـكل استثنائي لكـــي يرضي غروره».

تبرير مضلل، لأن كاداريه كان مدللاً ومحتضناً من خوجة، تُقدم له الخدمات. غير أن الصدق منجاة. والمأخذ على كاداريه الذي أصبح عام 1991 لاجئاً في فرنسا، استخدامه لتصديه للديكتاتورية، ونضاله من أجل الحرية، سلاحاً وشعاراً، وسلماً لتسلق المزيد من المجد، مستفيداً من حب فرنسا للترويج لصورتها بوصفها حاضنة للأدباء المضطهدين، مثل البنغالية تسليمة نسرين التي استقبلت في الفترة نفسها.

الحرية حق، لكن المتاجرة بالدفاع عن الديمقراطية والقيم الغربية بوصفها وسيلة للترقي في سلم الشهرة في الغرب، لم يستخدمها محمود درويش في باريس مع أنه كان مطروداً وذاق مرارة السجن وسرقة وطنه كله.

كاداريه روائي مستحق، وألباني حتى النخاع، كتب معاناة بلده، بالطريقة التي فهمها، مستخدماً الأساطير والقصص الشعبية والتوريات، وله أسلوبه وقدرته على المواربة في الحكاية.

لكن الأسلوب الأدبي أمر، والمبالغة في ادعاء النبل الإنساني شأن آخر. ففي العمق كان كاداريه مفتوناً بالغرب حدّ الانسحاق.

عندما ترجمت روايته الأولى «جنرال الجيش الميت» ونشرت في فرنسا، رغم أنه مواطن من أكثر الدول الشيوعية تطرفاً، أصابه الدوار.

«كنـــت ســـعيداً، ووجدت نفسي أمام صعوبة كبيرة، إذ كيف باستطاعتي أن أعيش في هذين العالميـن بما أن العدو الأول لألبانيا هو الغرب؟».

وبدل أن يبقى أميناً لفكره وضمير شعبه، حار؛ كيف بمقدوره أن يرضي الجهتين: «قراء أحـــراراً، هم الموجودون في الغرب، وقراء مساجين وهم الألبان؟ كان عليّ أن أختار أو أتوقـــف نهائياً».

بقي كاداريه يكتب عن ألبانيا التي يمتلك مادتها ومفاتيحها وعيونه معلقة بالغرب. إحساس بالدونية جعله يبدو متناقضاً، كما بلاده التائهة بين الشرق والغرب، الإسلام والمسيحية والإلحاد بين الاشتراكية والليبرالية.

ارتهان بدا بعده مضحكاً، وهو يكرر أن «80 إلى 90 في المائة من الكنوز الروحية التي دامت 3000 سنة أنتجت في أوروبا. لا يوجد مسرح يوناني ثانٍ في أي مكان آخر في العالم، ولا شكسبير أو دانتي أو سرفانتس ثانٍ». أنكر على بقية الشعوب آدابها وفنونها، مع أن أشد الأوروبيين شوفينية يخجل من رأي كهذا.

نال «جائزة أورشليم لحرية الفرد في المجتمع» عام 2015 التي تمنحها بلدية القدس، واسمها يكفي ليجعلها تليق بكاداريه وادعاءاته النبيلة وهو عاشق الجوائز، والطامح حتى اللحظة الأخيرة لنوبل التي لم ينلها رغم كل التنازلات والاحتيالات. يومها سئل من الصحافة الإسرائيلية، عما يجيب لو قيل إنه يتغاضي عن حرية الفلسطينيين ويقبل الجائزة؟

استنكر لأنه في كلّ مكان يزوره يسأل عن السياسة المحلية: «أنا لا أفهم جلّهـا ولا أرغب في أن أحلّل تعقيداتها. لا شكّ في أن ثمة تناقضاً بين القدوم إلى مكان للحديث عن الفن والثقافة، في الوقت الذي يعاني فيه من عنف وحروب وإرهاب. لست ساحراً ولا أعرف كيف يمكن إيجاد حل له». دون أن يحدد مصدر العنف والإرهاب.

بقي كاداريه متعلقاً بحبال الغرب، رافضاً أي نسب لألبانيا، بجيرانها الشرقيين، أو تاريخها العثماني الذي عدّه محض استعمار، مشدداً على الود العظيم بين الألبان واليهود.

كان يقرأ الصحف بانتظام في الصباح، على عكس ما يدعيه من جهل في السياسة. لذلك كنا نود لو نعرف، إن كان قد فهم، خلال الأشهر الأخيرة من حياته، وهو يراقب المجازر الفظيعة في غزة، حاجة الفلسطينيين للحرية والأمل والانعتاق، أم أنه بقي يعدّها نعماً، يستحقها وحده؟

 

arabstoday

GMT 05:18 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

أمة الرواد والمشردين

GMT 05:16 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

يوليو جمال عبد الناصر وأنور السادات

GMT 05:15 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

المسلمون والإسلاميون في الغرب

GMT 05:13 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

في مدح الكرم

GMT 05:12 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

إنها أزمة مصطلحات!

GMT 05:10 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

أميركا واختبار «الديمقراطية الجندرية»

GMT 04:33 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

لبنان بين حربي 2006 و2024

GMT 04:32 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

اطلبوا الوحدة و لو فى الصين !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كاداريه وعقدة النقص كاداريه وعقدة النقص



ميريام فارس بإطلالات شاطئية عصرية وأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 11:29 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

قصف تركي عنيف علي محافظة أربيل العراقية

GMT 12:19 2024 الخميس ,25 تموز / يوليو

الحيل التي تتبعها أصالة لإبراز خصرها النحيل

GMT 11:58 2024 الخميس ,25 تموز / يوليو

جولة على أبرز أحياء العاصمة باريس

GMT 11:47 2024 الخميس ,25 تموز / يوليو

كارول سماحة بإطلالات راقية وجذّابة

GMT 11:32 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

أوكرانيا تعلن قصف مطار عسكري روسي في القرم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab