بقلم:سوسن الأبطح
كان ابني لا يزال طفلاً صغيراً، ممدداً على سجادة المكتب، ينظر بأرقٍ حولَه إلى عشرات الكتب المصطفة على أرفف كامل حيطان الغرفة، ويقول: «ماذا أفعل بكل هذا حين تموتين؟». أخذت السؤال على محمل الجد، رغم أنه كان عابراً وطفولياً. لكن للغرابة، اكتشفت، وأنا أسعى للتخلص من جزء من الكتب، أن المكتبات العامة، لا ترحب بالسهولة، التي نتصور، بما يرِدها، مهما كانت أهميته، ولو بالمجان. ومع شيوع الكتاب الإلكتروني، بات تبني المكتبات الخاصة في حياة أصحابها، أو بعد رحيلهم أصعب، فما بالك بالمقتنيات الشخصية والصور والمخطوطات واللوحات.
لذلك، فإن ما حدث مع عائلة نور الشريف، بعد اكتشاف مقتنياته الشخصية، وهي تباع في سوق الأنتيكا في مصر، هو أمر شائع في بلادنا، في غياب جهات يمكنها احتضان إرث الفنانين والأدباء، وأرشفته على نحو محترف. وكانت عائلة أديب لبناني شهير قد تخلصت من بعض مكتبته، بعد موته مباشرة، وعثر على كتب له وأوراق، في مكبّ نفايات الحي قرب منزله، ولم يجرؤ أحد على البوح بالمصير الأليم الذي لحق بحاجياته. كذلك حصل لمذكرات محمد نجيب أول رئيس لمصر؛ حيث عثر عليها مخطوطة، في سوق الخردة، وتم إنقاذها ونشرها لاحقاً.
هل من يعرف، أين فساتين الفنانة صباح، وصورها ومقتنياتها؟ قد تكون في أيدٍ أمينة، لكن لا عنوان معروف لها لجمهورها. ومع أن الجمعيات عندنا تنمو كالفطر، فهناك جمعية للكلاب الشاردة، وأخرى للقطط المعذبة، وغيرها للنساء المضطهدات، ومؤخراً وجدنا من يدافع عن الرجال المظلومين، لكننا لم نسمع عن أي جمعية تريد العناية بالموروثات الثمينة للشخصيات الوطنية الراحلة. وهي مهمة صعبة لأن الخاص والعائلي فيها يختلط بالعام.
فقضية مكتبة سعد الله ونوس أشهر مثال على ذلك. فقد ارتأت أرملة الراحل وابنته منحها للجامعة الأميركية في بيروت، بينما قامت حملة في سوريا، تتهم العائلة بالعبث بإرث الأديب الراحل عبر شحنها خارج البلاد، بدل تحويل مقتنياته إلى نواة متحف له في بلاده. وتساءل البعض عن مصير مذكرات يقال إن الأديب تركها غير منشورة. وكان التوقع أن تُهدى تركة ونوس لـ«مكتبة المعهد العالي للفنون المسرحية» الذي كان أحد مؤسسيها، كما فعل المخرج علاء الدين كوكش حين أهدى كتبه إلى «المكتبة التربوية» في دمشق.
ولكن، هل من قانون في سوريا يجرّم ما فعلته عائلة ونوس؟ وأين ينتهي العائلي، ويبدأ الحق العام في تركة الشخصيات الاعتبارية؟ وعلى افتراض أن عائلة نور الشريف لا تريد الاحتفاظ بتركته من الرسائل والكتب والصور والسيناريوهات وغيره، هل من جهة قانونية يمكن أن توكل لها هذه المهمة؟
تحدثت مراراً غادة السمان عن رسائلها المتبادلة مع أدباء عدة، تمنّعت عن إخراجها إلى النور، بعد الضجيج الكبير الذي أحاط بنشر رسائلها المتبادلة مع غسان كنفاني، وصدور رسائلها مع أنسي الحاج. ولم تجد غادة السمّان في غياب أي جهة عربية يمكن أن تأتمنها على باقي الرسائل الأدبية التي لم تنشر سوى سويسرا، متمنية لهذه المحفوظات الثمينة، لتاريخ الأدب العربي، أن تجد ذات يوم طريقها إلى القراء بالموضوعية التي تتمناها. وباعث تحويل الرسائل إلى ودائع مؤجلة النشر في أوروبا بدل حضن العائلة، هو شعور الكاتبة السورية بالشفقة من توريط ابنها حازم في قصص معقدة من هذا النوع، تعرف سلفاً ما تجلبه من متاعب.
وبالطبع، لم يخطر لنور الشريف شيء من هذا القبيل، لكن زوجته، بناء على وصيته تبرعت لمكتبة الإسكندرية بأكثر من 6 آلاف كتاب، وكراريس فيها ملاحظات وخواطر. لكن الفنان الكبير، الذين يعتبر من بين ألمع من عرفتهم الشاشة العربية في القرن العشرين، الذي عرف بلقب «صائد الجوائز»، من المحزن للغاية أن تباع دروعه ونياشينه وأوراقه كما الخردة.
وبينما النزاعات قائمة حول مقتنيات نور الشريف، التي ضاع جزء منها، كانت فرنسا تحتفي بافتتاح منزل الشاعر السنغالي الكبير ليوبولد سنغور، لزيارة أثاثه وحديقته الغنّاء، وتتمهل الجمهور في عرض المحفوظات المكتوبة مثل الرسائل والمخطوطات، لعمل جردة فيها، خاصة أن طلبات البحاثة بدأت بالوصول.
ويتشرد فنانونا وأدباؤنا أحياء وأمواتاً بحثاً عن ملجأ آمن. كان من المؤثر أن نرى الكاتب وديع فلسطين يرحّل مكتبته بالصناديق من القاهرة إلى بيروت ليضعها في عهدة تلميذته وصديقة العمر سلمى مرشاق. ولا داعي لشرح الجهد الذي بذلته هذه الباحثة الجليلة مع ولديها، الراحل المظلوم لقمان سليم، وابنتها الناشرة والأديبة رشا الأمير، لتنظيم المكتبة، وترتيب محتوياتها، واستخراج المخطوطات، ولا سيما الرسائل الثمينة التي تبادلها الكاتب مع أدباء كثر... ما حدا بالزميلة والصديقة إنعام كجه جي تصوير فيلم يوثق هذه الرحلة الاستثنائية لمكتبة عربية تبحث عن مأوى.
للدول عادة مؤسسات، وظيفتها احتضان تركة الأدباء، وترتيبها، ووضع كل عنصر فيها في خانة مختلفة، بحيث يمكن بعد ذلك عمل متحف لكل أديب أو فنان، وتنظيم معارض لرسائل الأدباء مثلاً، أو لنصوص السيناريو، أو للملاحظات التي وضعها ممثلون على نصوص معروضة عليهم، واللائحة تطول. ويفترض أن يتمكن باحث بنقرة زر على «غوغل» من معرفة أين توجد مخطوطة كذا لنجيب محفوظ أو مسوّدة كتاب كذا ليوسف السباعي أو جبران خليل جبران.
ما نحن فيه، هي فوضى تؤسس لضياع، يوم يسأل أولادنا عن ماضيهم المجيد، ولن يجدوا منه غير فتاتٍ متناثر، بطريقة لا توصل إلى معنى أو خلاصة مفيدة.