بقلم - رضوان السيد
قبل شهر طويل طويل، وفي حديثٍ مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وبعدما تمنّيت له التوفيق، قلتُ له: "الشروط والظروف التي جئتَ فيها غير ملائمة للإنقاذ ولِما هو أقلّ منه. ثمّ إنّ في الحكومة عناصر غير صالحة للقيام بشيء مُجْدٍ: وزير الإعلام غير صالح ولا كفء، وعنده أفكار عجيبة، ووزير الداخلية ضعيف، ويُقال إنّه اتّفق مع جبران باسيل على تعييناتٍ له قبل تولّيه الوزارة. ووزير الطاقة دون جوان ولا كفاءة، وأمين سلام (ولم أتذكّر الوزارة التي يتولّاها!) لا يصلح لا في العير ولا في النفير". أوقفني رئيس الحكومة حاسماً وليس غاضباً، وقال لي: "ولا يهمّك الوزارة جميعاً، أنا المسؤول، والمتصدّي للإنقاذ". أين بدت مسؤوليّتك يا رجل؟ حتى الآن ما تبيّنت معالم مشروعك للذهاب إلى صندوق النقد، وإلى الآن ما قلت لنا كيف ستعود الدولة إلى المرافق في المرفأ والمطار والحدود مع سورية؟ وإلى الآن ما قلت لنا كيف ستفعل في العلاقات العربية، حتى مع مصر، وكيف سيساعدك الأميركيّون والفرنسيون الذين لا يزالون يطالبونك بالإصلاحات. منذ العام 2009 ليس هناك رئيس حكومة حقيقيّ في لبنان وللبنان. بل وما جرؤ أحدٌ منهم، وهو يستقيل أو يُقال، الاحتجاج على الخراب النازل بالبلاد من جانب الثنائي المسلَّح والباسل
ودعْك من هذا كلّه، فهي قضايا كبرى، ولننصرف إلى القضايا أو المشكلات المباشرة التي ما اعتبرتَ نفسك فيها مسؤولاً على الرغم من ادّعائك غير ذلك. أزمة البيطار التي منعت اجتماع الحكومة العتيدة، وأزمة الطيونة-عين الرمانة، وأخيراً أزمة القرداحي وتداعياتها الإيرانية والخليجية. في الأزمات الثلاث كان موقفك أنّه لا علاقة لها بك أو بحكومتك، وأنّها واردةٌ عليك من عالم الغيب. كلّها كما تعلم واردة من الحزب المسلَّح وحلفائه وأعوانه. وأسلوبك الدائم اللجوء إلى الوساطات وتبويس اللحى، كما في حكومتك الثانية عام 2011. والطريف وغير الظريف طريقتك في استدراج الوساطات، ومن نماذجها الاستعانة بالبطريرك على الوزير المستعصي، ومن نماذجها اجتماع وزير الخارجية مع القائم بالأعمال الأميركي في حضور وزراء موالين لك لطلب وساطته، وإرسالك مبعوثاً إلى الجامعة العربية، وكلّ ذلك وأنت أين؟ في غلاسكو بمؤتمر المناخ رجاء رؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن. وكلّها تصرّفات رعناء، وتنمُّ عن عجزٍ وقلّة حيلة. المشكلة هنا لن تجد لها حلّاً هناك. هل عجز ميقاتي جديد وناجم عن الظروف المستجدّة وعن شخصيّته؟ أبداً. فبعد حكومة الرئيس السنيورة الأولى (2005-2008) التي انتهت باحتلال بيروت من جانب حزب الله وحلفائه، ما عرف لبنان رئيساً حقيقيّاً للحكومة. بعد السنيورة توالى على المنصب حتى الآن خمسة كلّهم خاضع إن لم يكن تابعاً. وقد صار الخضوع مزدوجاً للحزب المسلَّح وللجنرال عون، ثمّ الرئيس عون وصهره جبران باسيل الذي أجرى فحص دم وولاء لكلّ وزراء حكومة ميقاتي، ومن بينهم ثلاثة أو أربعة اختارهم هو، وعُرِضوا على الثنائي قبل أن يُعرَضوا على الباسيل!
ما من رئيسٍ للوزراء من العام 2009 سأل عن صلاحيّاته. وما من أحدٍ منهم اعتبر نفسه رئيساً للسلطة التنفيذية، وتعامل مع الآخرين على هذا الأساس. وما عادت الحكومات تجتمع بمقرّها، بل عند رئيس الجمهورية، وكلّ قرارٍ مهما صغر يحتاج إلى موافقتين قبل رئيس الحكومة. منذ العام 2009 ليس هناك رئيس حكومة حقيقيّ في لبنان وللبنان. بل وما جرؤ أحدٌ منهم، وهو يستقيل أو يُقال، الاحتجاج على الخراب النازل بالبلاد من جانب الثنائي المسلَّح والباسل. وقد قلتُ دائماً، وقال غيري كثيرون، ومنذ عام وأكثر، إنّه ما دامت السلطة التنفيذية قد انتهت فلا ينبغي لسُنّيٍّ أن يترشّح لها، وليحكم البلاد علناً أولئك الذين يحكمونها فعليّاً. لكنّ رؤساء الحكومة الأربعة أصرّوا ثلاث مرّات على ترشيح ثلاث شخصيات واحداً على إثر آخر، وآخِر هؤلاء ميقاتي الذي افترسه هذه المرّة الحزب المسلَّح دونما مشاركةٍ ظاهرةٍ من عون، ويا للعجب! عليك يا ميقاتي أن تستقيل اليوم قبل الغد، وأنت مَدينٌ بذلك للّبنانيّين وللعرب. فأنصار الحزب المسلّح يصرّحون أنّهم يريدون تغيير هويّة بلادنا وانتمائها. وهم ذاهبون مع ازدياد التوتّر بين إيران والغرب إلى إدخال لبنان في النزاعات المسلّحة كما فعلوا من قبل. من أجل لبنان أنت مدينٌ بالاستقالة. ومن أجل المملكة والعرب أنت مدينٌ بالاستقالة. ومن أجل كرامتك وأخلاقك ودينك أنت مدينٌ بالاستقالة.
سيقول لك زملاؤك أو بعضهم: لكنّ الأزمة ستتعاظم باستقالة الحكومة. وهذا غير صحيح وخادع، وقد قلتَها أنت من قبل، وقالها سعد الحريري، وقالها عبقريّ الزمان حسان دياب. لكنّ بقاءكم واستسلامكم زاد الأمور صعوبةً. فليحكموا بدون السُنّة، ولسنا خائفين لا على الوجود ولا على الدور. لقد تمرّد المسيحيّون الآن بعدما أخمد حركتهم عون والعونيّون طوال عقدٍ ونصف بحجّة أنّ حقوق المسيحيين عند السنّة (!). الآن الآن وليس غداً ينبغي أن تقرّر، وأنت المتموّل الكبير، أين رأسمالك الماديّ والمعنويّ، هل هو عند حزب الله وبشار الأسد وإيران، أم عند المملكة التي رعت لبنان العربي منذ الاستقلال؟ لا يغرّنّك الفرنسيون الذين دخلوا في تغطية الحزب وسلاحه، وفي مواجهة العرب عليك يا ميقاتي أن تستقيل اليوم قبل الغد، وأنت مَدينٌ بذلك للّبنانيّين وللعرب. فأنصار الحزب المسلّح يصرّحون أنّهم يريدون تغيير هويّة بلادنا وانتمائها ولا يغرّنّك قول بعض رفاقك: وماذا بعد؟ بعد الخيرُ الكثيرُ. نعمل جميعاً ومعنا العرب ومع المعارضة على استعادة لبنان، وإخراجه من النفق الذي أدخلونا فيه منذ العام 2008 وعندي في الخاتمة مسرحيّة وشعر. في العام 1949 كتب المسرحي الإيطالي المعروف لويجي بيرانديلو مسرحيةً عنوانها: "ست شخصيّات تبحث عن مؤلّف"، بمعنى أنّه أحياناً تكون هناك أدوار وليس هناك شخصيّات للقيام بها، وأحياناً تكون هناك شخصيّات، لكنّها ليست متأهّلةً للأدوار، وليست قادرةً على اجتراح أدوار لنفسها. جمال عبد الناصر الذي استشهد ببيرانديلو في كتابه "فلسفة الثورة" عام 1953، اعتبر نفسه هو المؤلّف أو الذي ملأ الفراغ، ولبّى متطلّبات اللحظة التاريخية.
وبصراحة ما وجدنا منكم أحداً بعد العام 2008 لبّى المتطلّبات الوطنية أو حاول ذلك. لقد غلب عليكم همُّ الوظيفة، واعتبرتم أنّ الدور الذي تركه آباء الاستقلال وأرباب الدولة هو حقّ مكتسب لكم، بدون كفاءةٍ ولا قدرات. فاذهبوا الآن جميعاً لإنقاذ الدولة والدور، قبل أن لا تعود هناك دولةٌ ولا دور أمّا الشعر فأنشده نصر بن سيّار والي خراسان أواخر العصر الأمويّ عندما ثار أنصار العباسيّين، ورفضت السلطة المركزيّة إنجاده: أرى خلل الرماد وميض نارٍ فيوشك أن يكون لها ضِرامُفإنّ النار بالعيدان تُذكى وإنّ الحرب مبدؤها كلا أقول من التعجّب ليت شعري أأيقاظٌ أميّة أم نيامُ فإن كانوا لحينهم نياماً فقُل قوموا فقد حان القيامُ تخلّي عن رجالك ثمّ قولي على الإسلام والعرب السلامُ لا بدّ أن تكون لنا قيادة سياسيّة، وأن نُشعر العرب بذلك وبأنّنا لسنا متخلّين عن وطننا ودولتنا وعروبتنا لإيران ومسلَّحيها. ولن يكلّفك ذلك يا ميقاتي غير الاستقالة بدلاً من التذلّل للفرنسيّين وللحزب المسلَّح ولأوهام محبّي الوظائف والأدوار التي لا يستحقّونها. الظرف في منتهى الخطورة، ولا بدّ من اتّخاذ موقف.