بقلم: عادل درويش
ما «بين الصحافة والسياسة» أحياناً ما تُطرح أسئلة صعبة عن أخلاقيات المهنة، والالتزام القانوني عندما يشترك شخصان في صياغة كتاب، ودور الكاتب الشبح، ghost writer (المؤلف الحقيقي لكتاب يصدر باسم شخصية مشهورة).
الأسئلة تحولت إلى معركة قانونية بين وزير سابق وصحافية شاركته في تأليف كتاب عن وباء «كوفيد» في بريطانيا.
هذا الأسبوع نشرت «الديلي تلغراف» العريقة، سبقاً صحافياً، هو الأكبر من ناحية مسؤولية المؤسسة السياسية أمام الشعب، منذ كشف الصحيفة نفسها مغالاة نواب البرلمان في تقاضي مصاريف نثرية قبل ثلاثة عشر عاماً.
الصحافية، الكاتبة إيزابيل أوكشوت، بدأت نشر ملف من رسائل متبادلة عبر «واتساب» بين وزير الصحة السابق ماثيو هانكوك، ومجموعة من المسؤولين والمتخصصين في الوزارة والأقسام والمؤسسات الصحية المتعاملة مع وباء «كوفيد» في عام 2020.
ما حدث سابقاً في الحالات المشابهة، هو حصول الصحافي على الوثائق أو المعلومات من مصدر، حصل عليها بدوره بشكل يبدو غير قانوني، فتحاول الجهة المعنية (أي المالك الشرعي للوثائق والمعلومات) استصدار ما يعرف في القضاء الإنجليزي بـ«Court injunction»، أي أمر قضائي بمنع النشر، لكن هذه المرة الصحافية حصلت عليها بموافقة صاحبها.
في الحالات السابقة، محامي الصحيفة أو جهة النشر بدوره غالباً ما ينجح في إقناع المحكمة برفض قضية منع النشر، استناداً إلى سوابق قضائية تعود لعشرات السنين بأن «الصالح العام» في النظام الديمقراطي، والسلطة الرابعة وحرية الصحافة أهم دعائمه، هنا يتفوق (فيما يعرف بموازنة الاحتمالات وموازنة النتائج مع المخالفة) على نصية القانون.
«الصالح العام» هذه المرة، في القنابل (وليس قنبلة واحدة) التي فجرتها «الديلي تلغراف» بنشر رسائل «واتساب» تبادلها وزير الصحة السابق، تظهر ما يبدو أن سياسته أدت إلى موت المئات من المسنين الذين انتقلوا من المستشفيات إلى دور رعاية المتقاعدين، بلا إجراء فحص التأكد من عدم حملهم فيروس «كورونا المستجد» المسؤول عن الوباء.
الوزير السابق لوح بإجراء قانوني، متهماً شريكته في الكتاب بانتقاء بعض الرسائل خارج السياق، ويقصد سياق الأحداث أثناء الوباء الذي أدى إلى إغلاق البلاد، وخارج سياق الاتصالات بين المسؤولين وقتها. فبجانب «واتساب»، هناك مراسلات ورقية وبالبريد الإلكتروني ومَحاضر دوّنت مكالمات التليفون، والمحادثات الشفهية في الاجتماعات. وهذا بدوره يطرح إشكالية أخرى تتعلق بالمحاسبة الديمقراطية للحكومة. فـ«واتساب»، وسيلة تواصل جديدة، وعلى الرغم من أنها خاصة لا عامة، فإن هناك «مجموعات مغلقة» كل لغرض أو نشاط محدد. وبينما وسائل اتصال ومراسلات الوزير ومحادثاته ومكالماته واجتماعاته تُسجَّل بدقة بوصفها وثائق حكومية، يمكن الرجوع إليها في المستقبل لأسباب قانونية أو لدراسة أكاديمية للمؤرخين أو لتحقيق برلماني أو قضائي (مثل التحقيق الذي سيبدأ قريباً في الإخفاقات أثناء الوباء)، فإن رسائل «واتساب» على التليفون الخاص بالوزير غير مدونة في محاضر يمكن الرجوع إليها، وهو أيضاً جدل دفاع الصحافية أوكشوت.
هانكوك من جهته يقول، إن الصحافية وقّعت معه ومع دار النشر ما يعرف بعقد التزام السرية، «non-disclosure agreement» (التعهد بعدم إفشاء المعلومات لطرف ثالث عن الوثائق والتفاصيل التي قدمها الشريك، ومنها نصوص رسائل واتساب، بوصفها معلومات ومصادر البحث).
الكتاب صدر في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بعنوان «يوميات الوباء: التفاصيل الداخلية لمعركة بريطانيا ضد كوفيد».
اسم الوزير، بالبنط الكبير قبل عنوان الكتاب، وتحت العنوان الفرعي ببنط أقل حجماً، «بمشاركة إيزابيل أوكشوت». وعلى الرغم من أنه للوهلة الأولى يبدو الكتاب مُشاركةً بين مؤلفيْن، فإن العمل في الواقع كله من صياغة وتأليف أوكشوت بوصفها «كاتب شبح»، وهو سبب توقيعها اتفاق التعهد بعدم إفشاء المعلومات.
مثلاً 3 من كتبي الستة المنشورة، كانت مشاركةً مع مؤلفين آخرين ولم نوقّع هذا التعهد؛ لتساوينا في الجهد والحقوق والواجبات. بينما 5 كتب أخرى نُشرت لشخصيات عامة (مشاهير من ضباط جيش، ومبعوثين لزعماء بريطانيين وأوروبيين) كنت فيها «الكاتب الشبح»، قمتُ بالتأليف، ونُشرت بأسماء المشاهير، طُلب مني التوقيع على التعهد؛ لأني اطلعت على وثائق ومعلومات حساسة، بعضها يتعلق بأمن البلاد أو يعرضهم لمشكلات عائلية أو قانونية. من تجربتي هنا أستخلص أن أوكشوت كانت «الكاتب الشبح» وأن الوزير السابق لم يكتب إلا القليل، واقتصر دوره على تزويدها بالرسائل (مثل مبادلات واتساب) والمراسلات وتسجيل شهادته شفهياً، وذكرياته وملاحظاته على جهاز تسجيل متنقل، وهي أدلة ظرفية ستقوي من موقف محامي أوكشوت إذا وصل الأمر للقضاء.
الأسئلة الأخرى تتعلق بأخلاقيات المهنة نفسها، وبالطبع لا نتعجل الحكم دون معرفة كل المعلومات والملابسات والدوافع. أوكشوت لا تخفي أنها ليبرتارية من التيار الذي يقدس حرية التعبير وحق الجماهير في معرفة المعلومات دون أي رقابة، وأيضاً من التيار الذي يحذر من تحول الدولة وأجهزتها إلى المربية التي تعامل أفراد الشعب باعتبارهم أطفالاً غير بالغين، تسمح لهم فقط بممارسة ما ينفعهم، وتمنعهم من ممارسة ما يضرهم. وكانت أيضاً ضمن التيار المعارض لسياسة إغلاق المدارس وإجراءات الحظر، وبدورها ذخيرة مؤثرة في جعبة محامي هانكوك بشأن دوافعها، هل هي في الصالح العام، كما تدعي... أم للنيل من الأجهزة التي تدعم التوجه التسلطي الرقابي للدولة؟ وهل هناك خلافات مادية بشأن عدم التزام هانكوك بدفع ما يليق بمهارة ومجهود الكاتبة؟
أسئلة ستعقد من القضية أمام محكمتين: المحكمة القانونية، ومحكمة الرأي العام بين جمهرة الصحافيين.
ولعل أغرب الأسئلة، ما الذي يدفعنا كصحافيين أو كتاب محترفين للتنازل وقبول محو اسمنا من على الغلاف، والاكتفاء بدور «الكاتب الشبح»؟
بالطبع المقابل المادي يلعب دوراً أساسياً في القرار، بجانب التوقيت، وهو عامل حيوي من تجربتي الخاصة. فتأليف كتاب لتسجيل أحداث تاريخية (حتى ولو كان الكاتب عاش الأحداث نفسها قبل سنوات) يتطلب مجهوداً لمراجعة الوثائق والبحث في السجلات والأرشيفات، التي لا يُفرج عنها إلا بعد 3 أو 5 عقود، مما يزيد من الخسائر المادية.
«الكاتب الشبح» يتسلم المعلومات جاهزة، وقصة الحياة وذكريات الشخصية المعنية بصوته أو بتدوينه، والبحث فقط للتأكد من مصداقية الرواية، ومطابقة الأحداث للتواريخ والأماكن... الوقت والجهد أقل من ربعه المطلوب للكاتب بالاسم الحقيقي مع أضعاف العائد المادي لـ«الشبح»!