بقلم: عادل درويش
«الزعامة السياسية مهنة تنتهي بالفشل، إلا إذا قطع المشوار منعطف سعيد الحظ...»، قول مأثور لرجل الدولة البريطاني جوزيف تشامبرلين (1836 - 1914)؛ ربما يكون ملائماً لما يسفر عنه صدام زعيم حزب المحافظين الأسبق، بوريس جونسون (رئيس الوزراء من 2019 إلى 2022) مع إحدى أهم اللجان البرلمانية التي أفتت بأنه تعمد تضليل البرلمان فاستقال كنائب وشن عليها هجوماً دونالدياً ترمبياً.
المفارقة أن ابن تشامبرلين، نيفيل تشامبرلين (1869- 1940) انتهت رئاسته للحكومة (1937- 1940) بفشل، ربما كان الأكبر في القرن العشرين، بعد توقيعه معاهدة ميونيخ في سبتمبر (أيلول) 1938 التي منحت مقاطعات تشيكوسلوفاكية لألمانيا النازية (1933 - 1945)، والضوء الأخضر لغزوها بولندا واندلاع الحرب العالمية الثانية، فاختار المحافظون ونستون تشيرشل (1874 - 1965) زعيماً بديلاً. جونسون ألف كتاب «دور تشيرشل: رجل صنع التاريخ» (صدر 2014)، فهل تضعه مفارقة سخريات القدر في كتب التاريخ كتشامبرلين الابن، لا كمثله الأعلي تشيرشل؟
لجنة الامتيازات (The Privileges Committee) مهمتها تقصي الحقائق في قضايا قد تعرقل عمل البرلمان؛ وكبقية اللجان المختارة، فإن أعضاءها السبعة منتخبون من النواب بلا ترتيب مسبق (أربعة محافظون، اثنان عمال، وواحد عن القوميين الأسكوتلنديين). اللجنة تعد محكمة البرلمان، والقاضي (رئيس اللجنة وزيرة سابقة في حكومة العمال) ولذا فتقريرها «بتضليل البرلمان عمداً» يعد حكماً، والعقوبة التقليدية تجميد عضوية النائب لفترة. وفي غياب دستور مكتوب ولوائح ثابتة، فحسب السوابق والتقاليد تؤدي فترة تجميد أسبوعين أو أكثر إلى عودة النائب إلي مخدومه، أي أبناء الدائرة؛ فإما يؤكدون ثقتهم به أو يسحبونها في انتخابات فرعية. ولأشهر طويلة حققت اللجنة فيما إذا كانت المعلومات التي أدلى بها جونسون لمجلس العموم بشأن ملابسات حفلات العاملين في مكتبه أثناء إغلاق وباء «كوفيد» خلافاً لتعليمات وزارة الصحة صادقة أم مضللة؟ توصيات اللجنة جاءت غير مسبوقة في قسوتها بتجميد عضوية جونسون لـ90 يوماً، وحرمانه من تصريح دخول البرلمان (يمنح للنواب السابقين).
المحاكمات في ديموقراطيات كبريطانيا بنظام المحلفين، ودورهم سيلعبه مجلس العموم بالتصويت غداً (الاثنين) بالتصديق على الحكم (تقرير اللجنة) أو رفضه أو تعديله.
نواب المحافظين في حيرة، كيف يرفضون توصيات لجنة مهمتها حماية عمل البرلمان من التجاوزات؟ لكن جونسون يتمتع بشعبية بين ناخبي دوائر يلحون على ممثليهم برفض تقرير يعدونه انتقاماً من جونسون، و«مؤامرة» من خصومه، ومن «الدولة العميقة»، والمؤسسة الحاكمة، لإعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي. وسائل التعبير الصحفي (وأغلبها ضد «بريكست») غذت هذا الظن، مصادفة أو عمداً، باستضافة معلقين كرروا أن «كذب» بوريس على البرلمان يعني أيضاً أنه وفريقه «كذبوا» على الشعب أثناء حملة التصويت على استفتاء «بريكست» في 2016. الادعاء الأخير يستفز الطبقات الشعبية، ويرونها نظرة استعلائية من الطبقات الأكثر حظاً في المجتمع التي تراهم كالقروي الذي «اشترى ترام المدينة» من محتالين «ضللوهم» في حملة «بريكست». ولذا من المتوقع أن يغيب كثير من نواب المحافظين عن جلسة التصويت غداً، تاركين لأحزاب المعارضة والموالين لبروكسل المهمة التاريخية للإجهاز على أكثر زعماء المحافظين قبولاً لدى الناخب منذ مارغريت ثاتشر (1925 - 2013).
كثيرون يعتقدون أن عدوى «كوفيد»، التي وضعت جونسون في العناية المركزة في ربيع 2020، قبل ظهور الأدوية الفعالة، أضعفت قدرته على موازنة قرارته؛ كرد فعله لتقرير اللجنة، التي تقتضي التقاليد إطلاعه عليه وحق الرد قبل صياغته النهائية. جونسون، في ضربة إجهاضية لعقوبة تجميد العضوية، سرب، بشكل انتقائي، محتويات التقرير، واتهم اللجنة بازدواجية المعايير والتآمر؛ وكانت رئيسة اللجنة قبل التحقيق جاهرت بخصومتها لجونسون وضرورة التخلص منه. استقالته كنائب أدت لتأجيل اللجنة صياغة التقرير وتوصياتها الانتقامية.
ارتفعت شعبية جونسون كعمدة لندن (2008 - 2016)، عندما اتبع نصائح مجموعة مستشارين متعددي الاتجاهات والعرقيات، عملوا «كفرامل» لاندفاعه المتسرع في سياسات غير مدروسة بدقة. المجموعة لم تصحبه رئيس وزراء في داوننغ ستريت (2019 - 2022) بسبب التعقيدات الدستورية والسياسية، فتكررت أخطاؤه. أولها، وكانت بداية تناقص شعبيته، فرض حكومته «تعليمات» قيود عزل «كوفيد» في 2020 وتغريم مخالفيها بدلاً من الاكتفاء «بإرشادات» صحية اختيارية، يفضلها الناخب الذي يتمرد بطبيعته على الأولى. وكانت كعب أخيل الذي تلقى فيه السهم، لًن مكتبه خالف التعليمات؛ أيضاً أخطأ في محاولة تبرير مخالفة التعليمات، بدلاً من الاعتذار أمام البرلمان والصراحة الكاملة بجهله بتفاصيل لائحة أصدرتها حكومته، وهو ما فسرته اللجنة «كتضليل للبرلمان».
جريدة «الديلي ميل» (الأكثر توزيعاً مع شقيقتها «ميل أون صانداي» يوزعان قرابة مليون ونصف المليون نسخة، والموقع الأكثر قراءة) تعاقدت مع جونسون للكتابة مما يمنحه منبراً واسع الانتشار قد يجعل منه زعيماً غير منتخب لمعارضة شعبية صامتة ليس فقط لحكومته القديمة، المحافظين بزعامة ريشي سوناك، بل أيضاً للمؤسسة بما فيها وستمنستر التي تتزايد عدم ثقة الناخبين فيها.