بقلم - نجيب صعب
كما في السياسة والاقتصاد، كذلك في البيئة والمناخ. فالتسويات هي التي تصنع الاتفاقيات الكبرى، حيث تتشابك الوقائع وتتضارب المصالح وتتشعب الخيارات. وليست التسويات عيباً، إذ لا أحد يملك ناصية الحقيقة وحده في هذه القضايا المعقدة.
وقد تكون المبادرة الأكثر تعبيراً عن اعتراف العالم بضرورة التفاوض في القضايا البيئية وصولاً إلى تسويات مقبولة هي «نشرة مفاوضات الأرض»، التي ترصد يومياً الاجتماعات الدولية المعنية بالبيئة والتنمية والمناخ. ومنذ انطلاقها مع قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، أصبحت هذه النشرة المرجع الأهم لتوثيق مواقف الدول والمنظمات في الاجتماعات والمفاوضات، بناءً على تقارير يعدها مندوبون مستقلون يحضرون المناقشات. وتصدر النشرة عن «المعهد الدولي للتنمية المستدامة»، وهو مؤسسة غير حكومية تأسست في كندا عام 1988. ويعكس اسم النشرة الواقع الذي تواجهه قضايا البيئة والتنمية، إذ إن ما يحتاجه العالم لإنقاذ هذا الكوكب المهدد لا يقل عن مفاوضات جدية وصادقة من أجل الأرض.
رافقت التسويات العمل البيئي الدولي منذ انطلاقه في مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية عام 1972، لكنها برزت بقوة للمرة الأولى في المفاوضات لحماية طبقة الأوزون، التي بدأت عام 1982، واقتصرت نتائجها لسنوات على تفاهمات عامة حول ضرورة الحد من انبعاثات مواد «الكلورو فلورو كربون» المسببة لترقق طبقة الأوزون. غير أن الأبحاث العلمية خلال السنوات اللاحقة وجدت أن تخفيف استخدام هذه المواد المضرة لا يكفي، بل يجب وقفها كلياً في أسرع وقت. واقترح العلماء سنة 2000 موعداً للإلغاء التام. لكن حين عجز المفاوضون عن الاتفاق، تم التوصل عام 1987 إلى تسوية بتخفيض الإنتاج والاستخدام إلى النصف سنة 2000، وإعطاء الدول النامية فترة سماح ومساعدات تقنية ومالية لتمكينها من الالتزام. ومع النجاح في تطبيق بنود الاتفاقية أسرع من المتوقع، قررت الدول الأعضاء لاحقاً تقديم موعد الوقف الكلي للمواد المستنزفة للأوزون، وليس 50 في المائة فقط، إلى 1997، ونجح العالم في تنفيذ هذا الهدف.
حين تراجع مصطفى كمال طُلبة، المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة آنذاك، الذي كان يدير المفاوضات عام 1987، عن موقفه المبدئي بشأن الإنهاء الكامل لإنتاج واستخدام المواد المستنفدة لطبقة الأوزون بحلول سنة 2000، اتهمه البعض بخيانة قضية البيئة. وكان في طليعة المهاجمين منظمات غير حكومية، على رأسها «غرينبيس». ونتذكر جواب طُلبة الشهير: «إذا كنا نريد حماية البيئة، فلنبدأ بخطوة وسوف تليها خطوات. وما لا يمكن أن يُدرَك كله لا يجوز أن يُترَك كله». وقد أثبتت التطورات خلال سنوات قليلة أن مصطفى طُلبة لم يخُن القضية، بل كان، ببساطة، أكثر واقعية.
هذا لا يعني إطلاقاً التنازل عن الحقائق العلمية والسكوت عن الجرائم البيئية. فعلى المجرمين الذين يعيثون في البيئة والطبيعة فساداً أن يدفعوا الثمن كاملاً، وفق قوانين صارمة، سواء أكان الأمر يتعلق بتلويث الأرض والمياه والهواء، أم باستنزاف الموارد الطبيعية وهدرها. هذا النوع من الجرائم يجب أن يكون خارج التسويات. غير أن قضايا معقدة مثل المناخ، وقبلها الأوزون، تتداخل فيها أمور متشعبة تنعكس فيها الواحدة على الأخرى، ويتطلب حلها الموازنة بين خيارات كثيرة.
ليست المسألة دائماً أبيض أو أسود، إذ يمكن أن يكون الحل المرحلي رمادياً. هناك حقائق علمية ثابتة يجب أن تبقى خارج المساومة. لكن قد يكون من الضروري إخضاع البرنامج التطبيقي لدراسة تأخذ في الاعتبار الانعكاسات كافة، واعتماد خطة مرحلية على هذا الأساس. فليس الوقف المتسرع للوقود الأحفوري، مثلاً، في مصلحة البيئة، إذا حصل قبل توفير بدائل، وأدى إلى قطع الغابات بحثاً عن حطب للطبخ والتدفئة في البلدان الفقيرة.
ذكرت قبل أيام الناشط فؤاد حمدان، الذي يتابع منذ سنوات العمل البيئي والإنساني الدولي في منظمات ألمانية تعنى بحقوق الإنسان والطبيعة، بحديث معه عام 1999، حين كان يقود حملات «غرينبيس» في بيروت. في ذلك الزمن، تعرض ناشطو المنظمة البيئية للضرب من رجال الأمن حين اقتحموا مصنعاً تصدر عنه انبعاثات ملوثة، وأوقفوا عمله لبعض الوقت. وفي حين كانت معظم المعلومات التي أعلنوها عن مستويات التلويث وأنواع الملوثات صحيحة، فقد كانت واحدة منها مغلوطة. كانت نصيحتي أن تعتمد المنظمات البيئية دائماً أرقاماً علمية دقيقة في كل البيانات والتصريحات، لأن الوقوع في خطأ صغير واحد يعطي المصانع الملوثة حجة للتشكيك في جميع الأرقام الأخرى. كما قلت له إن الناشطين قاموا بواجبهم في الاحتجاج، كما قام رجال الأمن بمهمتهم حين منعوهم. فالمواجهة، ضمن حدود، مفيدة للعمل البيئي، إذ لو لم تضرب الشرطة المتظاهرين بالهراوات لمنعهم من اقتحام المصنع، لما كانت وسائل الإعلام اهتمت بالموضوع وخصصت له مقدمات نشرات الأخبار والصفحات الأولى للصحف.
لكنني نقلت إلى فؤاد حمدان أيضاً ما أسر به الدكتور مصطفى طُلبة أثناء العمل على مذكراته عام 2015، فهو اعتبر أن احتجاجات المنظمات البيئية، وفي طليعتها «غرينبيس»، وحتى اتهامها له بخيانة قضية البيئة حين قبِل بتسوية مرحلية في قضية الأوزون، قوت موقفه ومنحته دعماً للوصول، بعد سنوات قليلة، إلى شروط أفضل مما اعتبرت «غرينبيس» أنه تنازل عنه. ففي هذا النوع من المفاوضات، السر هو في اختيار ما يؤخذ وما يُترك، للتقدم خطوة نحو تحقيق الهدف النهائي في أقرب فرصة.
وأكشف هنا سراً آخر: يوم اقتحم ناشطون بيئيون مؤتمراً للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) لإيصال اعتراضهم إلى رئيس منظمة معنية بالتنمية الدولية، كان بين المتحدثين، لمطالبتها باهتمام أكبر بقضايا البيئة والطاقات النظيفة والمتجددة، كان رد فعلي، كأمين عام للمنظمة المضيفة، طرد المحتجين من القاعة. وأذكر أن رئيس المنظمة التي كان الاحتجاج موجهاً إليها قال لي: «لقد أدوا واجبهم كما أنت أديت واجبك». وطلب صوراً ونسخة من شريط فيديو لتوثيق الاحتجاج والمطالب، لأنها، كما قال، تساعده في إيصال الرأي الآخر إلى الحكومات الأعضاء، تسهيلاً لإقناعهم بتفاهمات.
ذكرتُ التسويات في مقال كتبته أخيراً عن الذكرى الخمسين لمؤتمر استوكهولم حول البيئة، فرد صديق صحافي أنه «لولا التسويات لما زادت الكوارث». شكراً له لتحريضي على كتابة هذا المقال، لإيضاح أن التسويات الصحيحة قد تؤدي ليس فقط إلى منع الكوارث وتحقيق الأهداف في المدى المتوسط، بل أحياناً إلى تسريع الأهداف، كما حصل في موضوع الأوزون. المطلوب مفاوضون بارعون في الدبلوماسية، يستندون إلى العلم والقانون.