بقلم - جميل مطر
نعيش زمنا تكاثرت فيه وتكالبت علينا أزمات أكثرها خانق. ففى غالبية دول الشمال كما فى جميع دول الجنوب شعوب تعانى عواقب سوء إدارة وصعوبات مالية واختناقات سلعية وغذائية وظلم شديد فى توزيع الموارد وتضخم فى الأسعار وفساد سياسى واجتماعى متفاقم. يزداد الشعور بالقلق ولا أقول اليأس كلما انسد طريق خلاص بعد الآخر وتعددت مظاهر العنف أو التهديد به وصارت الفوضى كابوسا ضاغطا يهدد ما تبقى، وهو قليل، من مدخرات الأفراد والدول على حد سواء. يزداد أيضا القلق بين خاصة الناس ومن بيدهم الأمل فى التغيير بسبب إدراكهم المتجدد أن قضايا دولية استجدت أو تدهورت حتى صارت تشكل فى مجموعها أو منفردة مصدر تهديد لكل أمل متجدد فى خلاص قريب. اخترت فى السطور التالية بعضا مما أعرفه عن قضيتين تستدعيان الاهتمام بهما:
أولا: أوروبا المهددة بالتفكيك: كنت شخصيا منذ بداية عملية التكامل ثم الاندماج الأوروبى من أكثر المتفائلين بهذه الظاهرة الطارئة على السياسة الدولية. تعلمنا فى معاهد العلم العليا الكثير عن ماضى أوروبا. حروب متواصلة من بينها حربان عالميتان أهلكتا ملايين البشر، وسباقات على استغلال أمم فى أمريكا الجنوبية قبل أن تصبح لاتينية وبعد أن استحقت هذه الصفة وأمم فى آسيا وأمم عديدة فى أفريقيا والشرق الأوسط. مصدر الأمل لدينا كان الحال التى خرجت عليها شعوب أوروبا من حرب أشعلها حكامها والدعوات الخجولة ولكن الملحة من بعض قادة الفكر لإقامة تجمعات اقتصادية بأهداف تكاملية تجمع بين دول متفاوتة الأحجام والثروات فى غرب القارة. كبرت الفكرة ونضجت من جماعة حديد وصلب إلى سوق اقتصادية أوروبية مشتركة إلى اتحاد أوروبى.
عاشت أوروبا مرحلة غير مسبوقة من السلم الإقليمى كان الظن أو الأمل أن تستمر. ولكن حدث ما يدفع الكثيرين فى داخلها وبخاصة فى خارجها إلى الشك فى أن تستمر. حدث أن تعرضت أوروبا لموجات متتالية من الهجرات الآسيوية والأفريقية بدأت ضرورية وانتهت كارثية. حدث أيضا أن دعت الأحوال الاقتصادية والسياسية فى عدد من دول جنوب القارة إلى بعث أو تجديد «نفس« استعمارى تحول إلى طاقة سباق لغزو واسع فى أفريقيا. حدث ثالثا أن العضو الأكبر فى حلف الأطلسى تورط فى خطأ جيواستراتيجى كبير استدعى الخروج منه الاستعانة كعادة الولايات المتحدة بتغطية غير محدودة بالوقت أو المال أو السلاح من جانب الدول الحليفة حتى صارت أوروبا طرفا فى أجواء حرب كانت تظن أنها ربما نأت بعيدا عنها إلى الأبد.
ليس من قبيل المبالغة فى كثير القول بأن الحرب الأوكرانية، أيا كانت نتيجة مساراتها فى المستقبل، قد نتج عنها صدع فى مشروع الوحدة الأوروبية. نتج عنها أيضا وهو الأهم بالنسبة لنا، انتكاسة أمل فى سلم عالمى وفى استقرار يطول أمده.
ثانيا: عالم ناشئ فى الجنوب: من بين مفاهيم كثيرة طرحتها التطورات الأخيرة فى السياسة الدولية لفت نظرى بصفة خاصة مفهوم «الجنوب العالمى» أو «عالم الجنوب». صرت، مع بعض التأمل، أعتقد أنه يعبر عن حالة عالمية جديدة تختلف عن أى حالة سابقة كان للجنوب دور مشهود فيها. لم يكن قصد باندونج الإعلان عن نشأة «الجنوب»، فالجنوب فى ذلك الحين كان مشاركا فى قيادة تيار «متعدد الجغرافيا والألوان». بل أن التكوينات المتعاقبة لدول ما سمى بالعالم النامى والعالم الثالث ومجموعة السبع والسبعين وغيرها تعمدت فيما يبدو الابتعاد عن تسميات تحمل صفة الجنوب، تماما كما تعمدت، أيضا فيما يبدو، مجموعة أعضاء الحلف الأطلسى، النأى بنفسها عن صفة حلف «الرجل الأبيض»، رغم أنه بالفعل الحلف الذى نشأ وعاش وتوسعت عضويته، باستثناء يكاد يكون وحيدا، وما يزال فى نظر رجل الجنوب الملون هو الحلف الذى يحمى مصالح الرجل الأبيض.
لم يعد الجنوب العالمى أو عالم الجنوب مجرد مفهوم نظرى أو جغرافى. حدث فى السنوات الأخيرة أن تحركت هذه الكتلة الضخمة فى اتجاهات تستحق منا الاهتمام والمتابعة. أقصد بالكتلة الضخمة التحرك العسكرى فى جانب من القارة الأفريقية واستعدادات ملموسة على مستوى القارة اللاتينية تنذر بسلوك مماثل فى الجوهر وإن ليس فى الشكل. أقصد أيضا مجموعة البريكس وما حققت من شعبية سياسية فى أوساط «الجنوب» وفى الوقت نفسه لا أنكر فضل المغزى الذى تتضمنه. تأسست وفى عضويتها دولتان من الجنوب بينهما صراع على الحدود كامن حينا وساخن حينا آخر. الملفت أن الدولتين رغم هذا الصراع الناشب بينهما ورغم المحاولات الأمريكية المتواصلة للإيقاع بالهند وجذبها بعيدا عن المجموعة نحو أحلاف سريعة التجهيز تحت المظلة الأمريكية، رغم هذا وذاك يظل العداء للغرب، وبالذات لذكرى الرجل الأبيض خلال المرحلة الاستعمارية تشكل العمود الفقرى والأساس فى عقيدة السياسة والحكم فى كلتا الدولتين، الهند والصين. يبقى واضحا وملحا الدور النشيط الذى يلعبه ولعب جزءا منه فى مرحلة نشأة البريكس الرئيس لولا دا سيلفا. كان يسعى وهو مستمر فى السعى لتكون الغلبة لدول الجنوب فى مجموعة البريكس، ولتكون هى الصوت المعبر عن هذا الجنوب الصاعد والثائر ضد هيمنة الرجل الأبيض.
أعرف، كما يعرف كل متابع ومدقق لقضية دولية بعينها، أن الطبقة الحاكمة فى فرنسا لم ولن تغفر للجيوش الحاكمة فى أفريقيا توليها الحكم ضد رغبة باريس، وبمعنى أدق، دون مباركتها. هى أيضا لن تغفر لواشنطن غدرها وخيانتها عهود التحالف المشترك عندما مارست ضغوطها لمنع تدخل الإيكواس والفرنسيين ضد النيجر وغيرها من الدول الأفريقية الثائرة. فرنسا خلال أقل من عام تعرضت مرتين على الأقل للغدر الأمريكى مرة فى قضية الصواريخ لأستراليا ومرة مع مستعمراتها الأفريقية. وفى النهاية أشعر بالغبن الذى لا شك شعر به الأستاذ أمين معلوف. هذا الرجل كان يستحق أن يحصل من فرنسا على التكريم الذى أنعم به عليه الرئيس ماكرون لو أنه جاء فى ظروف طبيعية وليس فى ظروف نكبة سياسية وثقافية، نكبة الموقف الفرنسى من الثورة الأفريقية الناشبة ضد الاستعمار الفرنسى ورد الفعل البارد أو الساكت من جانب علماء وأكاديميى فرنسا وغضب كثير من المفكرين القريبين من المجتمع الفرانكوفونى فى أنحاء «عالم الجنوب». على كل حال بدأ الغضب على السلوك السياسى الفرنسى تجاه الثورة الأفريقية الراهنة يضغط على صانعى السياسة فى عديد دول الجنوب وفى فرنسا أملا فى تعديل هذا السلوك قبل أن يتفاقم ويتحول إلى قطيعة ثقافية.
• • •
قضايا أخرى تتفاعل مع بعضها البعض ومع البيئة القلقة المحيطة بها. أضرب مثالا بقضية منها تستحق منا اهتماما خاصا. كتبت عنها بالتلميح حينا والتصريح حينا آخر. خشيت، وما زلت أخشى، أن يستمر ضغط الولايات المتحدة الأمريكية على دول المنطقة منفردة أو مجتمعة فى غياب وحدة العمل السياسى العربى فتتخذ هذه الدول سياسات تضعف فرص النظام القومى العربى فى استعادة مسيرته وتدفع بنشأة بديل له. البديل هجين لن يحقق آمال أو أحلام الشعوب العربية فى الاستقلال والتقدم ولن يحقق الاستقرار أو السلام فى المنطقة.