بقلم - جميل مطر
(كنا، زميلى وأنا، نتناقش فى أمر يخص العمل. أنت تعرفه فهو من فريق تلقى تدريبا على يديك. لاحظت وقد اقتربنا من نهاية النقاش كما لو أن ملكة التركيز تخلت عنه. فجأة فقدت ردوده ترابطها وراحت عيناه تجول أرجاء الغرفة لتتوقف لثانية أو أقل عند صفحة وجهى. رأيت فى تلك اللحظات أو الثوانى نظرات حائرة حيرة الخاطف ومترددة تردد الوجل المذنب. فجأة توقف عن الحديث المتقطع أصلا ليقترح استراحة. أغلق كراسته وسكت عن الكلام. نظراته أوحت لى بأشياء وظنون. نهضت وأخذتنى قدماى إلى الشرفة ثم إلى الحمام ومنه عدت إلى حيث كان جالسا فى صمت. قطعت صمته وبادرته بسؤال أعقبه نقاش ليس كأى نقاش. إليك يا أستاذنا وصديقنا نص ما دار لتحكم بيننا).
• • •
قلت: ماذا بك؟. تبادلنا على امتداد أيام أفكارا وآراءً أتصور أنها كانت عالية المستوى كما انتظرت أن تكون. كنت دائما براقا فى مداخلاتك وفى أسئلتك، وكنت حاضرا باستمرار ومشاركا لا يكل ومعينا للأفكار لا ينضب. فجأة رأيتك وكأنك قررت أن تغيب بروحك عن النقاش وعنى. أردت أن تقول شيئا وترددت فى النطق به. أظن أن أسلوبى فى التعامل معك خلال الأيام الأخيرة التى قضيناها فى هذا التدريب وخلال النقاش الذى أدرناه معا اليوم أقنعك بأنك تستطيع أن تأتمننى على سر يقلقك أو تسألنى المشورة حول أمر يخصك. أظنى فى محله؟
قال: بعض ظنك فى محله. تعارفنا منذ أيام قليلة وقد استفدت من هذه الدورة فى نواحٍ متعددة. لفتت انتباهى السعادة الفائقة التى شعرت بها خلال معظم جلساتها. كانت دورة مختلفة. حضرت دورات كثيرة لم أشعر خلالها بهذا القدر من الامتنان لمن نصحونى بها. وجدت نفسى بعد الأسبوع الأول أتساءل عن سبب هذه السعادة. الدورة فى شكلها العام وفى برامجها ونوعية المدربين والمتدربين يميزها عن سابقاتها الكثير. بحثت وترويت ثم عدت فبحثت لأكتشف أن وجودك فيها كان على رأس ما يميزها عن سابقاتها. أراك تتأهبين للرد. أريد فقط أن أذكرك بحقيقة أنت نفسك تحدثت عنها خلال الدورة، وهى الإشادة بواقعيتى فى الرأى والتحليل والقرار. أعتقد أننى وقعت فى حبك.
قلت: لا بد أنك تعرف أننى أقدرك ولا شك أنك شعرت بارتياحى لوجودك معنا. أعترف لك على الفور أننى تأثرت جدا بما قلته للتو وأننى كأنثى أعتبره ثناءً ودافعا للفخر ومكافأة لى على ميزات أنت اكتشفتها ومنحتنى بسببها هذا الشرف. أعتز جدا بتصريحك هذا وأتمنى أن تسمح لى بمناقشته. كنت كريما معى خلال جلسات هذه الدورة، وكنت صبورا فى التعامل مع آراء الآخرين ومواقفهم من مداخلاتك.
قال: سامحينى على المقاطعة ولكنى أحب فقط أن أقول لك قبل أن نفتح نقاشا حول ما بحت به أننى تداولت طويلا فى الأمر مع نفسى قبل إعلانه. أقصد أنه لم يصدر عن حالة عابرة أو عن انفعال مفاجئ أو عن نية اعتراف بجميل.
• • •
قلت: أنا واثقة من صدق مشاعرك ولكنى أكرر ما رددته كثيرا وهو أننى أعرف عن ثقة وتجربة أن اعترافك أو إعلانك صدر تلبية لرغبة من رغبات عديدة تعن للرجال عندما يقعون فى أسر رغبة أو أخرى يسرعون بتفسيرها نوعا من أنواع الحب أو درجة من درجاته. أريد أن أكون واضحة معك. أنا لا أقلل بأى شكل من قيمة الرغبة ومن صدق وقوة المشاعر التى يمكن أن تثيرها أو تؤثر فيها، ولكنى فى الوقت نفسه أحذر من الخلط بين الرغبة والحب.
قال: أظن أننى أعرف عن الرغبات ما يكفى لتعريف حقيقة مشاعرى تجاهك. أعرف عن رغبات إذا تحركت تناقضت مع الكثير من معتقداتنا وتقاليدنا، بل ومع توقعاتنا ومسئولياتنا. كثير من رغباتنا الداخلية قد تتسبب فى أمور يصعب التحكم فيها. أعرف رغبات خربت وفى أمثلة عديدة دمرت أو أهلكت. وأعرف رغبات ارتقت بأصحابها إلى أعلى مراتب الحياة.
قلت: نحن متفقان كما يبدو. أضيف بأن الرغبة وإن كانت مشروعة وضرورية يبقى تحققها مرتبطا بالسلب أو بالإيجاب برغبات أخرى. الأمومة رغبة بالغة السمو والرقى ومع ذلك تتحقق على حساب رغبات أخرى. نلتزم تلبية رغبة بعينها فنرتكب خيانة رغبة أخرى قصرنا فى الوفاء بها. أريد أن تخرج من هنا واثقا بأنك حققت إضافة ولم تقصر.
قال: أظن أننى فهمت ما تقصدين وترمين إليه، وها أنا أسبقك بالرد عليه. نعم كثيرا ما يترتب على الاستسلام لرغبة بعينها أن يعيش الفرد منا بعدها متراوحا بين الشعور بالذنب والشعور بالعار. أتحفظ وأقول إننى لست مع قمع الرغبات إلى حد الإصابة باليأس وداء الحرمان. الرغبة تأتى تصحبها مخاطرها وفى ظنى أن التصدى بإصرار لهذه المخاطر شرط كاف للحب.
• • •
قلت: عزيزى. لا أطلب منك التخلى عن الرغبة إن وجدت، ولكنى أطلب التروى فى إطلاق كلمة الحب. اعذرنى إن امتنعت عن مسايرتك على طريق الحب استنادا لرغبة تشبهت بالحب وراحت تلح فإن أنت أشبعت الرغبة فتر الحب أو اختفى. لن يبقى لنا منه إلا الحرمان وعدم الرضا وخيبة الأمل.
قال: الحب تطور رائع لمقدمات متنوعة من بينها خليط الرغبات. أعرف عنك عمق الإحساس وحسن التقدير. أنا واثق أنك تدركين بقدر ما أدرك أن لا حب يرجى من علاقة خلت من رغبات أو تعالت عليها. أرجو أن تفهمى ما أرمى إليه. أنا هنا لا أدافع عن رغبة وإنما عن حب.