أنا متهم

أنا متهم

أنا متهم

 العرب اليوم -

أنا متهم

بقلم - جميل مطر

تقابلنا لأول مرة قبل عقود لا أذكر عددها. أظن أنها، أقصد زميلتى، قرأت لى منذ ذلك الحين ربما أكثر ما كتبت. سمعتنى أتدخل فى نقاشات كثيرة علمية وفى أكثر منها بعيد عن العلم. جمعتنا ظروف عمل مع أجانب، اختلفنا واتفقنا وفى النهاية تأكدنا أن لكل منا أسلوبه فى التعامل مع الغرباء كما مع غير الغرباء، ولكل منا عقيدته وبصمته وأولوياته. كانت، مثل غيرها من المتابعات والمتابعين، تعتقد جازمة أن فى شخصيتى وتصرفاتى غموضا يجدر بى أن أروضه ولو قليلا.
• • •
لا أعد بشىء. حاولت فى مراحل عمرية مبكرة وفى ظروف متباينة وفشلت. اكتشفت خلال المحاولات الكثيرة أن وراء تعنت الغموض والتصاقه بأنماط سلوكى ماضيا طويلا. أهلى علمونى، وهم أكثر من أمى وأبى، حفظ السر. كنت طفلا أتنقل من حجر خالة إلى حجر خالة أخرى إلى حجر جدتى إلى حجر أمى وكلهن مشتبكات فى حديث تلو حديث عن الجارات والعمات، وبين الحديث والآخر ينتبهن إلى وجودى فتبدأ الواحدة بعد الأخرى فى التنبيه بأن أحفظ السر. لا أردد ما سمعت أمام الخادمات والمعلمة الخصوصية والجارات والضيوف وأطفال الروضة. أنا ابن الثالثة أو الرابعة ألتزم بكتمان معلومات لم يرقَ أو يتدنَ إلى مستواها مستوى فهمى ونضجى. لكنه التزام وقد كان.
• • •
كبرت واتسعت عندى مساحة الفهم كما اتسعت عند أهل البيت المساحة الممكنة لاستقبال معلومات أشد خصوصية بعضها يكاد يتلامس مع النميمة. أدركوا، وأقصد الأهل ومجتمعات الصبحيات حول فناجين القهوة والسبرتاية، أدركوا أننى كبرت فتغيرت اللهجة عند تجديد التنبيه. سبقتنى إلى هذه الاجتماعات وغيرها سمعتى فى حفظ السر والتكتم على ما نمى إلى سمعى. راح الوالد يصطحبنى معه بعض العصريات إلى المقهى الكائن فى الميدان الرئيس للحى الذى نعيش فيه. هناك كنت أسمع بالرضا تطمينات أبى المتكررة خلال نفس الجلسة وفى وجود نفس المجموعة، أسمعه يردد عبارة ابنى أمين وكتوم ويحفظ السر.
كبرت فى العمر، وكبر معى حجم المعلومات المتدفقة ناحيتى من كل صوب. صرت أشعر بثقل الحمل والمسئولية. رحت أبحث عن تبعات هذا السلوك. قرأت بين ما قرأت أن حفظ السر نوع من الخيانة، فنحن عندما نخفى أشياء، نتعتم عليها أو نتكتم فإننا فى الحقيقة نحرم أصدقاء حميمين ومخلصين من ممارسة حق معرفة هذه الأشياء والمعلومات. أحرمهم، يعنى أخون عهود محبتنا وصداقتنا فهى معلومات إما تخصهم أو يعنيهم أمرها بشكل أو بآخر وربما كانوا استفادوا لو أطلعتهم عليها فى وقت مبكر. اتهمنى من بينهم من تصور للحظة أننى تعمدت إخفاء المعلومة عنه ليشقى ويتعذب. أنى خنت الشخص الذى أحب حين تحفظت فى داخلى على سر أو فرضت سحابة من الغموض حول معلومة.
• • •
علمونا فى الصغر ألا نكذب. علمونا أيضا أن نكون صرحاء وأن لا نخفى عن أهالينا ما نفعل وما نراه وما نشعر به تجاه الغير. ولكن أليس حفظ الأسرار نوعا من الكذب أو درجة من درجاته. فى مجتمعنا يكذب الطفل والكبير أيضا عند المواجهة خشية عقاب أو آخر. وبالفعل يقال أن فى دولة القانون مجرد توفر النية لارتكاب جريمة يخضع صاحبها للعقوبة. النية كما نعرف سر وبالتالى فالمحافظة على النية فى شكل سر وكتمانه تصبح فى نظر القانون محل عقاب.
• • •
لم أعرف حين تعلمت التزام الكتمان أن الحب فى حقيقته وجوهره هو علاقة بين سر والاعتراف بهذا السر. الحب فى بدايته يعتمد فى كثير من الحالات على الكتمان وحفظ السر، أى على درجة ليست بسيطة من الغموض. سمه، إن شئت، الغموض البناء، التعبير الذى يفضله السياسيون على اختلاف مشاربهم وأخلاقهم. ولكن فى الحب لا بد عند مرحلة من مراحل نموه الانتقال من حفظ السر إلى الاعتراف به بالإعلان أو بغيره من وسائل الإبلاغ.
بمعنى آخر يصير الاعتراف فى مرتبة التكفير عن ذنب ارتكاب الكذب. كم من جدل أثاره هذا الاعتراف. هو دليل حب أم دليل خيانة. أليس مجرد الكشف عن سر هو من أحلى وأعظم الأسرار تماما كالكشف عن خبيئة من خبايا النفس، يعنى أن النفس بعد هذا الاعتراف صارت بلا حقيقة كانت تملكها وحدها لا يشاركها فيها أحد. هى تبنتها أو خلقتها ورعتها حتى شبت حبا يافعا ورائعا. يوم الاعتراف يعود الإنسان مكشوفا أمام الأغيار بلا درع يحميه ويزيده ثقة يعيش بدون غطاء يدفئه فى شتاء العمر القارس. سمعت أحدهم يقول «كنت قويا وهى تنمو فى داخلى وأنا الآن وبعد الإعلان أصبحت أضعف. أعرف هذا وأشعر به يؤثر بالسلب فى مجمل تصرفاتى وعلى صورتى».
• • •
فى السياسة يكذبون كثيرا. يكذبون على المرءوسين وبالعكس. يكذبون على الشعب، ولا أتجنى حين أقول أننى عشت تجارب غلب كذب الشارع على كذب الإعلام والمسئولين. عشتها فى الأرجنتين وفى شيلى وفى إيطاليا. كنت أعرف رئيس حزب اشتمل برنامجه الانتخابى على وعود بأنه إذا فاز فى الانتخابات فسوف يسمح للشعب بأن يكذب فى وثيقة الضرائب وفاتورة استهلاك الكهرباء. وبالفعل فاز فى الانتخابات بأغلبية ساحقة. رحمه الله على كل حال.
عشت فى دول حكوماتها تخاف أن يعتاد الناس على حفظ الأسرار، وبعضها لا يتورع عن فعل أى شىء لكشف أسرار مواطن. سمعت من دبلوماسى سبقنى إلى الهند أنهم هناك يقرأون أسرارك من أوراق الشاى التى تتركها فى فنجان دعيت لشربه فى بيت سياسى كبير أو شربته فى بيتك وتكفل بقراءته أحد العاملين المدربين على فك طلاسم أوراق الشاى. أورويل فى روايته الشهيرة بعنوان 1984 كتب عن المواطن الخائن الذى ضبط يكتم سرا.
• • •
للجيران فى بعض الثقافات تجاربهم وأساليبهم فى التعامل مع مسألة هتك الأسرار. عشت فى عمارة تمتد فى صالونات شققها شبكات المياه الساخنة للتدفئة. علمت بعد رحيلى أن الجيران فى شقق الطوابق السفلى كانوا يتجمعون كل ليلة حول فروع الشبكة فى شقة من شقق العمارة ليستمعوا جماعة إلى الأحاديث الحميمة التى كانت تدور بين شاب وعروسه شاء حظهما أن يقضيا شهر العسل فى شقة بهذه العمارة وآذان الجيران ملتصقة بأنابيب المياه الساخنة التى كانت تنقل أسرار العروسين لحظة بلحظة.
• • •
كم من المرات كاد الفضول يخنقنى وأنا أتابع عصفورين فوق غصن شجرة يتناجيان. كم تمنيت أن أعرف إن كان الحب بينهما ما يزال لم يدخل طور اعتراف أحدهما بالسر الذى أخفاه طويلا. أم أن الأمر بينهما لم يتجاوز علاقة صداقة. الطيور فى عوالمها أسرار وإلا ما كانت العشش المخفية بعناية فى قلوب الأشجار بعيدة عن عيون الرقباء والأشرار وما كانت التغريدات الرائعة المتبادلة بين الأحبة وما كانت الرحلات الموسمية المخطط لها بذكاء سعيا وراء طقس أدفأ وفرصا أكثر لتربية النشء وتدريبهم.
عشت عمرى أصون أكثر أسرارى، غير نادم على ما أخفيت. أما ما أعلنت عنه أو اعترفت به لحظة ضعف فحنينى له لا يعرف حدودا.

 

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنا متهم أنا متهم



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 09:16 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل
 العرب اليوم - أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 20:22 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

الاتحاد الأوروبي يعلن صرف 10 ملايين يورو لوكالة "الأونروا"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab