بقلم - جميل مطر
على امتداد علاقتى بمسائل الصراع لم أقابل من المجتمع الدولى اهتماما، أو قل مبالاة، بعدد القتلى والخسائر المادية المباشرة فى صراع كبير أو صغير مثلما قابلت وأقابل فى الحالة الراهنة، حالة الحرب الأوكرانية. تكاد لا توجد دولة واحدة لم تجأر بالشكوى لإصابة اقتصادها بخسائر هائلة نتيجة حرب لم تسع إليها أو تشترك فيها. اللافت أن هذه الدول التى تواجه بسبب هذه الحرب ولأسباب أخرى مشكلات عويصة فى الجانب الاقتصادى أو فى الجوانب الاجتماعية والسياسية والسكانية أو فى كلها معا تجد نفسها الآن، أى بعد مرور أكثر من سنة على نشوبها، مشدودة إلى قضايا أخرى.
تابعت عن بعد النقاشات الدائرة فى بعض مراكز البحث والعصف الفكرى وصنع الرأى فى أوروبا وبعض آخر فى الولايات المتحدة، راعنى سرعة تبدل القناعات حول مسيرة هذه الحرب. أفهم، أو أتفهم، بطبيعة الحال انبهار بعض الباحثين من دول مثل السويد وفنلندا بالفرصة التى أتاحتها لهم هذه الحرب ليتوقفوا عن ترددهم فى المشاركة فى أنشطة حلف الأطلسى أو فى الانضمام له. أفهم أيضا حماسة البولنديين الذين تنبهوا إلى أن لا أحد فى أوروبا على استعداد لأن يدخل حربا للدفاع عنهم. يدركون أن حمايتهم من غزو خارجى تقع على عاتق الولايات المتحدة، الدولة الوحيدة القادرة على تعبئة إمكانات حوالى ثلاثين دولة عضو فى الحلف من أجل تقديم هذه الحماية.
الآن يتضح لنا أن الأمور المتعلقة بالحرب الأوكرانية وتطوراتها ليست كما تبدو للبعض سلسة وواضحة وبالتأكيد لم تعد تحتكر الاهتمام. هناك رأى متزايد التردد بين باحثين أوروبيين يعتقد أنه لا يوجد ما يبرر الانشراح الأمريكى بالتوحد الأوروبى الداعم لأمريكا والحلف، فهذا التوحد إن وجد فلفترة قصيرة. وجد فى السنة الأولى للحرب حينما كان الأوكرانيون يحققون انتصارات أذهلت الكثيرين، انتصارات تضخمت بالمبالغة الإعلامية التى قادتها أمريكا أو بتراخى القوات الروسية أو بالتدريب المكثف لأوكرانيين خلال السنوات السابقة مباشرة على الحرب. وجد التوحد قبل أن ترتفع تكلفة الحرب وقبل أن توشك خزائن السلاح تنفد فى دول أوروبية استجابت لضغوط قيادة الحلف مد أوكرانيا ببعض أو معظم المخزون من الذخائر. صار لزاما على هذه الدول زيادة ميزانيات التسلح وتخصيص اعتمادات غزيرة لتمويل إدارة الأوكرانيين للحرب ولتشغيل مصانع السلاح فى دولهم وفى الولايات المتحدة. وجد أيضا قبل أن يتضح أن منع استخدام الغاز الروسى أجبر حكومات أوروبا وبخاصة ألمانيا على دفع قيمة أعلى نظير استيراده من أمريكا ودول أخرى.
شيئا فشيئا يتغير وشهرا بعد شهر يمر حتى بدأ بعض الأوروبيين وبعض الآسيويين، ومن هؤلاء القيادة الحاكمة فى بكين، يكتشفون أن روسيا لم تعد، وصعب جدا أن تعود فى الأجل المنظور، قوة عظمى. روسيا التى ترددت كثيرا قبل أن تتقرب إلى الصين هى الآن تعتمد عليها كسند، ولكن مجرد سند.. لا أكثر، فالصين لا تريد أكثر من أن تكون سندا. راحوا يكتشفون أيضا، وهو الأهم والأخطر، أن الولايات المتحدة بدورها يصدر عنها من الإشارات والسلوكيات، فى سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء، ما يشير إلى أنها ربما تكون قد قطعت شوطا غير قصير على طريق الانحدار.
• • •
يُقلق واشنطن الصعود الرتيب والمرتب للصين. يقلقها أكثر الاقتراب أو التقرب الروسى من بكين. أظن أن المخططين الأمريكيين لاستراتيجية العودة بأمريكا إلى مكانة القطب الأوحد تزعجهم حقيقة أن الحرب ضد روسيا طالت أكثر مما خطط لها أن تطول رجال الحرب فى أمريكا. أعتقد أيضا أنها بدأت تنتج ما لم يدخل فى أذهان المخططين الأوائل. كان الظن أو التوقع أنها، أى روسيا، كما حدث لها فى نهاية الحقبة السوفييتية، لن تتحمل الضغوط الاقتصادية، فينتهى بها الحال معتزلة المنافسة وخارجة عن السباق وربما دولة فاشلة كما بدت للأمريكيين فى عهد يلتسين. هنا يجدر بأن يتساءل المراقبون عن جدوى إطالة الحرب بعد أن ثبت أن روسيا تجدد قواها مع تمدد الحرب واستمرار المقاطعة، وأن التذمر فى صفوف بعض شعوب الحلف الغربى يزداد.
• • •
فى فرنسا يوجد متصاعدا تذمر لأسباب داخلية ولكن أيضا بسبب الحرب. وفى ألمانيا لم يهدأ التذمر بسبب الضرائب وارتفاع الأسعار وكلاهما من نتائج الحرب. هنا أيضا أسمع عن خوف من أن يؤدى زيادة ميزانية التسلح والسماح بعسكرة السياسة الألمانية إلى زيادة قوة وسرعة انتشار التيارات اليمينية. هذا الخوف يمتد إلى دول شرق أوروبا وهو خوف ملموس فى دول جنوب أوروبا. نقرأ أن الزائر إلى فرنسا وإيطاليا والمجر وبولندا وغيرها صار يلاحظ فى خطاب مواطنى هذه الدول وسياسييها تعدد مفردات ونغمات قوميات محلية منتعشة.
• • •
خارج أوروبا، وبعبارة أدق خارج ساحات ما يعرف بالغرب، يبدو واضحا الميل السياسى المتزايد نحو الحياد بين الأقطاب بوضعهم الراهن وفى المستقبل. هذا الميل أراه، ويراه مراقبون غيرى، تجديدا إيجابيا فى توجهات ومبادئ حركة عدم الانحياز. أراه نقلة نوعية فى فنون الإنقاذ أو الخلاص من مساوئ وضع تبعية بدأ يفقد مناعته أو انتهت فترة صلاحيته. أفريقيا فى معظم نواحيها تغلى بالغضب ضد الدول الغربية وبخاصة فرنسا الموصومة بالنموذج الاستعمارى غير القابل للتجديد أو حتى التطور. تغلى بالغضب أيضا ضد الولايات المتحدة التى تعالت على أفريقيا والأفريقيين بقسوة وإهانات بالغة وبالإهمال الصارخ فى عهد الرئيس دونالد ترامب وبسياسات تهرب أو بخطوات غير جادة فى عهد الديموقراطيين. للحق لم يخل الأمر من جهد أمريكى حقيقى وجاد ولكن بهدف أوحد هو الوقيعة بين المسئولين فى أفريقيا من ناحية وبين مبادرة الطريق والحرير التى أطلقها الرئيس الحالى للصين لمد شبكات بنية تحتية فى كل أنحاء القارة، وهو ما لم تحاول دولة غربية عمله لشعوب أفريقيا رغم الثروات الهائلة التى جرى نهبها من القارة السمراء على امتداد قرنين أو أكثر.
• • •
المثال السودانى يجمع فى حد ذاته عناوين معظم القضايا الإقليمية والدولية التى تعكس بكل الصراحة والصدق الحال الانتقالية التى يمر بها النظام الدولى فى طريقه للرحيل. من هذه العناوين عنوان أفريقيا التى تطالب بإعادة النظر فى ميثاق الأمم المتحدة بما يضمن التمثيل المناسب لها فى مواقع القرار الدولى، وبما يضمن أيضا حقوق دول العالم النامى فى منظومة جديدة لمؤسسات التمويل والتجارة الدولية بما يتناسب وحال الاقتصاد العالمى فى مرحلة ما بعد فورة عولمة لم تحظ الدول الفقيرة من ثمارها إلا بالقليل النادر، وربما لم تحصل فى الحقيقة إلا على سلبيات نظام رأسمالى خرج عن طاعة القواعد البناءة فى الرأسمالية وانحاز إلى أسوأها. الصين وروسيا لهما مصلحة أكيدة فى تطوير ميثاق الأمم المتحدة ولكن ليس إلى الحد الذى تطمح إليه أفريقيا وبقية أقاليم العالم النامى.
يضيف السودان عنوانا آخر ليس أقل شأنا وأهمية من تطوير أو تعديل ميثاق الأمم المتحدة. لم يكن خافيا العجز الفاضح للتنظيم الإقليمى بالصورة التى أطل منها على الأزمة وغيرها من أزمات تتعلق بالأمن والسلم الإقليميين. أتصور أننا سوف نشهد قريبا حوارات إقليمية، ودولية بطبيعة الحال، تناقش اقتراحات بدائل للتنظيم الإقليمى بشكله الراهن. أتنبأ من موقعى، غير المسئول، بأن الدول الأفريقية والعربية سوف تلجأ إلى تشكيل منظمات فرعية أو ثانوية عابرة للإقليم يكون لها من الصلاحيات والشرعية ما لا يجعلها تبدو متناقضة مع أهداف المنظمة الإقليمية الأم أو أهداف المنظمة الدولية الأرحب، بعد تطويرهما.
عنوان آخر أتخيله متصدرا عناوين كثيرة. ألمح على البعد نوايا سياسات تهدف إلى كبت الصراعات الإقليمية أو تجميدها. أرى الصين تتقدم على العكس بنوايا مختلفة تهدف بها إلى تسوية النزاعات. أخشى مع ذلك أن تعقيدات ورسوخ نزاعات بعينها قد يدفع الصين إلى مسايرة الميل المتزايد فى دول كبرى إلى كتم النزاعات أو عزلها. دول كثيرة قد تفضل العمل على إبقاء النزاع الناشب فى السودان داخل دائرة صراع رجلين على السلطة فى الخرطوم وبذل كل الضغوط الممكنة لمنع أطراف إقليمية أو دولية من التدخل فى الشأن السودانى. النزاع السودانى، من وجهة النظر هذه، أكبر وأخطر وأكثر تعددية قبلية وعرقية يتصاعد لخدمة مصالح خارجية متنافسة.
• • •
أرى، على القرب، عناوين عن أوكرانيا تتوارى حتى تكاد تختفى وعناوين عن عالم نام ناهض يسعى بطرق شتى باحثا عن موطئ قدم له فى قمة عالم خضع طويلا لإرادة دولة عظمى واحدة، ويتمنى أن يشارك هذه المرة فى وضع قواعد يخضع لها كل الأقطاب دون تمييز. أنتهز الفرصة لأذكر أن أسماء لامعة فى حقل القانون الدولى أقدم أصحابها قبل عقدين أو أكثر على التفكير فى مشروع بهذا المعنى وإن أعمق وتوقفوا أو تريثوا. من هذه الأسماء اسمان لعالمين مصريين هما جورج أبى صعب وعلى الغتيت.