بقلم : جميل مطر
قبل ثلاثين عاما أو أكثر كانت الآمال ما تزال كبيرة فى أن النظام الإقليمى العربى قادر على الصمود فى وجه تحديات لم تكن قليلة ولا بسيطة. كان النظام العربى فى حد ذاته، ناهيك عما يحيط به من كواكب داعمة له أو على الأقل تؤنسه فى وحدته، قادرا بالأمل وبحركة الشعوب وقومية دافعة ومدافعة على التصدى لقضايا جاهزة لإضعافه لصالح مشروع نظام إقليمى آخر. حول هذه القضايا الجاهزة وكانت عديدة وازدادت على مر السنين عددا وجهوزية أعرض ما يلى:
أولا: نعرف أن الجماعة العربية خرجت كفكرة من إعداد وتجهيز النظام الدولى الجارى إقامته فى نفس الوقت وأقصد نهاية الحرب العالمية الثانية. خلصت الفكرة إلى أن العرب خرجوا من الحرب العالمية الأولى بإصرار ملحوظ على تحقيق حلم إقامة دولة الوحدة العربية ولو بداية بين اثنين أو أكثر من الأقطار الموعودة بالاستقلال. لاحظنا أن عددا من هذه الدول دخل بالفعل منذ الأيام الأولى للاستقلال معضلة «حالة ازدواجية» لم تمر فيها معظم الدول حديثة العهد بالاستقلال خارج المنطقة العربية.
أما جوهر المعضلة فكان الميل داخل النخب السياسية فى هذه الدول حديثة الاستقلال إلى العمل على صعيدين فى آن واحدة، صعيد بناء المؤسسات وصنع السياسات القطرية الطابع وفى الوقت نفسه صعيد بعث ونشر الفكرة القومية الطابع. لمواجهة هذه المعضلة ولتفادى مرحلة عدم استقرار بعد الحرب العالمية الأولى استعدت بعض دول الغرب بخرائط حدود جديدة وبمشروع جامعة دول عربية ووعد بإقامة دولة مستقلة لليهود وبعديد الاتفاقات الثنائية بين دول المنطقة العربية وحكومات دول الاستعمار. مرت سنوات وعقود ولم تتغير أسس هذه المعضلة وآثارها العميقة داخل العقل السياسى المهيمن على العمل السياسى العربى.
• • •
ثانيا: على الجانب الآخر، لم تتوقف جهود دول فى الغرب عن التدخل سياسيا فى شئون المنطقة أملا فى أن تحافظ على سلامة مبدأ التجزئة بل وتعميق العمليات والسياسات المعتمدة عليه. لم يكن خافيا علينا خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى أن قوى معينة مهيمنة على عمليات صنع السياسة الخارجية الأمريكية شعرت بالندم على أنها لم تقض تماما على عناصر الوحدة وأنها تركت الفرصة متاحة أمام قوى طائفية بعينها لتحتكر السلطة السياسية فى دول عربية على حساب قوى أخرى. عادت وتدخلت. فجأة انتشرت ظاهرة تنظيمات إرهابية وحروب ضد الإرهاب وحركات تمرد. ضعفت السلطة الحاكمة فى أكثر من دولة من دول المشرق العربى وتأكدت ظاهرة الانفراط على حساب وحدة القطر العربى. دارت الدائرة من نية التجزئة القطرية على حساب مبادئ وحركات وأحزاب الوحدة العربية إلى نية التجزئة الطائفية على حساب الطائفة الأقوى رسوخا فى الفكر السياسى الإسلاموى إلى نية الانفراط المستند لمختلف العناصر الضرورية لانفراط الدولة القطرية، بما فيها التدخل الخارجى.
• • •
ثالثا: لا يمكن ونحن بصدد تحليل الأسباب الكثيرة وراء ظاهرة تراجع الدور العربى فى السياسات الإقليمية والدولية أن نتجاهل، أو نقلل من شأن، العامل السياسى الإسرائيلى. لا تكمن المشكلة فى الاختلال الخطير جدا فى توازن القوى العسكرى، الإقليمى والثنائى على حد سواء، بقدر ما تكمن فى متطلبات التطبيع غير المعلنة فى اتفاقاته وإنما أيضا فى ممارساته.
لاحظنا بالمتابعة المنتظمة ما يمكن أن يفعله التطبيع فى سياسات الدول العربية حتى قبل عقد أولى اتفاقياته. فجأة نبت لدى الكثيرين السؤال عما إذا كانت علاقة الدولة العربية بأمريكا تمثل قيدا حديديا على حرية هذه الدولة العربية أو الأخرى فى تحرير إرادتها فى العمل السياسى والاقتصادى تجاه المسألة الإسرائيلية بخاصة أو الصهيونية إجمالا. أم أن التطبيع صار عالما قائما بذاته، أقصد نظاما إقليميا قائما بذاته يفرض قواعد عمله على غيرها من قواعد عمل يفرضها أو كان يفرضها النظام الإقليمى العربى. لنا عودة مع هذه القضية وربما أكثر من مرة.
• • •
رابعا: لم تتوقف إلا نادرا الحرب فى منطقة الشرق الأوسط. تارة هى الحرب بين دولتين أو أكثر، وتارة هى الحرب المتنوعة بين اشتباكات حدود إلى اشتباكات جيوش. وتارة هى الحرب بالوكالة أو الحرب الشعبية تحت اسم حرب أهلية. كان الظن أن المنطقة ستهدأ فى ظل حكومات لها شرعية القبيلة أو الطائفة الأكبر. قامت فلم تهدأ إلا قليلا أو عند السطح. ثم كان الظن أن تنتفى الحاجة أو الرغبة فى شن الحرب مع استقرار، ولو لوقت غير قصير، الشرعية الدستورية أو شرعية القوة العسكرية المتولدة عن وجود مؤسسة عسكرية انضبطت أجزاؤها الأهم لبعض الوقت كالحادث فى معظم دول المنطقة. لم يصدق الظن. استمرت الحروب الصغيرة والانقلابات العسكرية وضاقت الصدور وهاجر الكثيرون أو انضموا لجماعات متمردة أو على الأقل لأقليات سياسية غير منتمية لدواعى وقواعد الشرعية المفروضة.
• • •
خامسا: لم تفلح دول النظام الإقليمى العربى فى إقامة تكامل أمنى عربى. للحق حاولت وفشلت. يجب أن نعترف أنها حاولت تحت ظرف بعينه وهو الخروج بهزيمة من مواجهة مع عدو غير عربى. ربما لم تكن جادة، وعلى كل حال لم تكررها. أدركت أغلب النخب العربية الحاكمة أن شبح الحرب بما يفرضه من استعدادات وإن شكلية يفرض على النظام الحاكم التزامات تتجاوز الإمكانات القطرية المحدودة، وبما يقرره من تعبئة شعبية وإن صورية يحمل نفسه أعباء لم يستعد لها سياسيا ولا عسكريا. جدير بالتنبيه أنه فى الحالات النادرة التى نشب فيها صراع مسلح مع دولة من خارج النظام العربى انتهت الحرب أو توقفت بفضل تدخل قوى خارجية فرضت قيودا تحرم القطر العربى من تحقيق أى مكسب مادى أو معنوى، قومى أو إقليمى أو ثنائى، نتيجة المشاركة، بدون إذن مسبق، فى هذه الحرب.
• • •
يعتمد تحقق هذا المشهد على توافر أربعة متغيرات:
أولها، أن نظاما دوليا جديدا يوشك أن يظهر للوجود فى شكل قطبية متعددة وللجنوب العالمى نفوذ فيه.
ثانيها، أن سباقا جاريا فى شأن الشرق الأوسط، من داخله وخارجه على حد سواء، لاستكمال عملية صنع قطب إقليمى، مرشح له إسرائيل، تدور فى فلكه قوى متوسطة تمثل أعراقا وطوائف كبرى.
ثالثها: أن الفرص المتاحة لإقامة تكامل أمنى عربى قوى تتضاءل تدريجيا مع استمرار تراخى العقيدة العربية وإرادة العمل العربى الموحد والاختراق الخارجى المكثف فى العمل العربى المنفرد والمشترك.
رابعها: ما زال يبدو فى حكم المستحيل نشأة أو تشكيل نظام تكامل أمنى وسياسى أو اقتصادى فى كل إقليم الشرق الأوسط قبل نشأة أو تشكيل نظام تكامل أمنى عربى حقيقى، مع العلم بأن التطبيع كنظام أمن إقليمى لن يكون البديل المناسب.