جربت كتابة مقال يغطى جميع أو معظم جوانب قمة جدة. جربت وفشلت. فشلت لأنها مؤتمر لا أول له ولا آخر. لا أقصد أن المؤتمر مر بمراحل إعداد كثيرة ومعقدة فالمؤتمرات جميع تمر بمراحل إعداد كثرت أم قلت، بعضها صعب ومعقد وبعضها بسيط وسلس. ما قصدت هو أن ما كنا نظن أنه من علامات مراحل الإعداد للقمة تأكد لنا أنه انتهى جزء أصيل من جوهر أعمالها وحقق أهدافا لم تكن على جدول أعمالها المعلن والمتفق عليه صراحة أو ضمنا. بمعنى آخر انعقدت القمة بعد أن طرأت على انعقادها ظروف والتزامات اجتمعت متفرقة وبينها إسرائيل دول من أعضاء القمة قبل أسابيع من انعقادها الرسمى واجتمعت مجتمعة الدول العربية المدعوة للقمة اجتماعا تشاوريا كشف عن عدم رضاء بعض المجتمعين عن أهداف لم تعرض بعد على القمة التى لم تنعقد. هنا راجت أقاويل عن حيرة بعض الدول المدعوة للقمة أمام أهداف أو استنتاجات غير دقيقة تضمنتها مسودات وثائق نهائية سوف تصدر باسم قمة لم تناقشها.
بهذا المعنى كنت أقصد أن مقالا واحدا لا يمكن أن يغطى جميع أو معظم أبعاد هذه القمة التى تعددت تسمياتها الإعلامية مع تعدد مراحل الإعداد لها وتعدد وجهات النظر حولها عندما أوشكت على الانعقاد وتعددت أكثر عندما انعقدت فى أشكال تعددت هى الأخرى. أعرض أمثلة ربما أوضحت بدرجة مناسبة ما قصدت بهذه المقدمة غير القصيرة.
●●●
سمعنا فى البداية، بداية الاستقبالات فى جدة، سمعنا كلمة وسمعها معنا مراقبون من كل الأعمار والتوجهات جعلتهم يحكمون مبكرين، منفردين ثم مجتمعين، بالفشل على القمة قبل أن تنعقد، وقبل أن يستعد المبادرون بها لاتخاذ مواقف تمنع انهيارها المبكر. كان الرئيس الأمريكى ما يزال منغمسا فى الانبهار بحفاوة استقبال الإسرائيليين به حين زايد على دونالد ترامب بالإعلان بشكل أقرب إلى الهزل عن هويته الصهيونية. أعلنها بحماسة تلفت أسماع وأنظار مستقبليها فى أمريكا وفى إسرائيل، ولا يهم رد الفعل فى العالم العربى. أظن أن قليلين على هذه الناحية من الصراع العربى الإسرائيلى فى حاجة لرئيس أمريكى يذكرهم بأنه صهيونى الهوية. لم يكتف الرئيس بالإعلان بل أضاف بكل فخر تأكيد أنها هوية تسبق الانتماء الدينى، حين قال ما معناه أنه لا الدين ولا المذهب يغير من حقيقة هويته الصهيونية التى يعتز بها، ويكاد، بالهزل أيضا، يطلب من العرب تبنيهم لهذه الهوية والجهر كما فعل هو نفسه بنوايا الدخول فى التزامات عسكرية لحمايتها.
حاولت بكل تواضع ممكن أن أضع نفسى فى مكان رئيس أمريكى يزور الشرق الأوسط لأول مرة. يأتى وعنده ما يطلبه من الدول العربية المنتجة للنفط، يأتى ويقف على أرض ما تزال محل نزاع وصراع دموى امتد لقرن من الزمان، وفى جوهر هذا الصراع الكلمة التى أطلقها بكل الاستهتار غير المناسب والغفلة غير اللائقة، أنا صهيونى. ألم يدرك وهو على رأس وفد من مواطنين أمريكيين أن النطق بهذا الانتماء أمام مستمعين عرب إنما يمكن أن يعنى لبعضهم أن الرجل يستهين بحقوقهم وتاريخهم ويسخر من انتماءاتهم ويحط من كرامتهم وهو القادم من بلاده يحمل عار هزيمته أمام مضخات بنزين رفعت أسعارها وإحصاءات يومية تكشف تدهور حال التضخم ومدفوعا بضغوط قواعد الحزب الديموقراطى التى سوف تحمله مسئولية فشل الحزب فى الانتخابات النصفية.
●●●
ترددت فلم أخصص مقالى لكلمة واحدة نطق بها الرئيس الأمريكى وكررها غير مبال، وهو يعلم ما تعنيه لدى المواطن العربى ولأعضاء القمة. ترددت رغم اعتقادى أنها ساهمت فى إجهاض القمة. لم يخفف من وقعها أنه لم يحسن حتى النطق بها ولا بغيرها من الكلمات الحساسة التى راح يرددها كاشفا عن قلة إدراك بالمنطقة وهوياتها وثقافتها وتطلعاتها.
كانت هناك الكلمة وكانت هناك الصورة التى عززت ردود الفعل للكلمة سيئة الطالع والواقع. صور الرئيس وهو ينزل من سلم الطائرة أو يصعد عليها وصوره وهو يمشى ملتزما توصيات المشى المنضبط بالمبالغة وصوره وهو يحيى ولى العهد السعودى تحية الكورونا الشهيرة. صور تكشف حال رجل أنهكته السياسة والعمر الطويل ومتاعب حكم عام ونصف قضى بعض شهورها فى خضم أزمة لعلها الأخطر فى حياة العالم المعاصر منذ انتهت الحرب الباردة. أنهكته أيضا ولا شك متاعب وقف انحدار دولة كانت الأقوى، هى متاعب أصعب وأشد انهاكا من أى متاعب أخرى فى الحكم بسبب أن التاريخ منتصب ليحكم بدوره على الرجل الذى رشح نفسه ليتحمل مسئولية التصدى للانحدار واستعادة المكانة. فشل من سبقه ولن أكون أول ولا آخر كاتب سياسى يعتقد وبصدق أن نهضة أمريكا تستحق رجلا أفضل وأكفأ وأصغر من هذا الرجل المنهك. تستحق أيضا سلة مبادئ وقيم متناسقة وأصيلة تنافس بها غيرها من الأمم الناهضة أو العائدة إلى أداء دور ونشر رسالة.
لا براعة أو قدرة فائقة جعلت مفكرين عديدين من جنسيات مختلفة يعتقدون أن الولايات المتحدة تواجه بالفعل تهديدا بزوال مكانتها. بعضهم راح بالفعل يفسر مواقف الرئيس بايدن فى إسرائيل وجدة ويحكم عليه وعلى صف مستشاريه الجالسين خلفه من خلال هذا السياق، سياق دولة عظمى تتغير مكانتها. ضمن هذا السياق يفسر هذا النفر من المفكرين التعقيدات التى ألمت بالعلاقات الأوروبية الأمريكية وبخاصة الخلافات التى اتسمت بها مرحلة دونالد ترامب فى تطور الغرب. يفسرون أيضا، الآن، حال التوتر التى سادت فى أجواء مؤتمر قمة جدة. صحيح أن الدول العربية توقعت ضغوطا من الوفد الأمريكى ومن بايدن شخصيا، وتوقعت حرجا بتأثير من فهم مغلوط لدى الرئيس بايدن للتطور الذى حدث فى العقل الخليجى سواء فى سياق الموضوع الإيرانى أو فى التزام تفاهمات مجموعة أوبك +. فات أيضا على مجموعة المستشارين الأمريكيين حقيقة أنهم فى قمة جدة سوف يتعاملون مع دول اكتسبت من عضويتها فى جامعة الدول العربية خبرة ثمينة فى أساليب مقاومة مبادرات وأفكار وخطط التكامل الاقتصادى. لن تشترك دول الخليج فى خطة تكامل جديدة بضغط أمريكى فى المنطقة تحت اسم التنمية أو ما شابه. ستظل كالعهد بها أمينة على التزامها القومى بأن تبقى مساهماتها فى التنمية الاقتصادية العربية ضمن إطار العلاقات الثنائية بين الدول العربية. لا أظن أن مستشارى بايدن انتبهوا لقوة هذا الالتزام الخليجى عندما راحوا يخططون لبرنامج تنمية إقليمى وحصلوا على موافقة نظرية فى المؤتمر.
●●●
لم يكن خافيا على أحد هدف إدماج إسرائيل فى المنطقة، أيا كان اسم المنطقة. وليس خافيا على أحد أن الهدف المتجدد لدى معظم أو كل الدول غير العربية المتاخمة بالموقع أو بالثقافة أو بالقوة المسلحة أو بها مجتمعة هو إدماج الدول العربية فى مجالها الحيوى. أقصد الإدماج النوعى أو الجزئى أو الأيديولوجى فى كل من مساحات نفوذ إيران وتركيا وإسرائيل. لم تتوقف إسرائيل عن التوسع والإدماج بصورة أو أخرى وإيران لا تنكر وتنفذ وفى الوقت نفسه تتفاوض لتحقق دمجا عربيا أوسع فى ساحة النفوذ الفارسى وكذلك تركيا وإن بأساليب مختلفة. هى الأخرى لم تتوقف عن السعى لاستعادة وضع اندماجى لا يختلف كثيرا عن المعلن من طموحات أردوغان العثمانية. لذلك أدعو، وكثيرا ما دعوت، الزملاء الباحثين والمفكرين إلى ابتداع شرق أوسط بقلب عربى نابض بالقومية وقادر بفضلها على مواجهة آليات وسياسات الدمج المنبعثة من قوميات توسعية فى جميع دول الجوار. الواضح لنا حتى الآن وبخاصة خلال الشهور الأخيرة التى شهدت الإعداد الأمريكى والإسرائيلى لمؤتمر جدة أن أمريكا سوف تلقى بكل ضغوطها لدمج المنطقة فى إسرائيل المتوسعة بآليات وخطط الأمن المشترك وتبادل التكنولوجيا والهيمنة المشتركة على البحر الأحمر.
كانت غريبة أو مستهجنة ويبدو أنها لم تعد هكذا. سمعت أو لعلنى قرأت لمن يدعو إلى الاستغراق جديا وبعمق سعيا وراء دمج إسرائيل فى المنطقة باعتبار أن دمج إسرائيل أقل تهديدا للمستقبل العربى من السير فى ركاب الدعوة لإدماج المنطقة فى إسرائيل أو فى شبكة تحالفات تنسجها إسرائيل مع الولايات المتحدة أو بدونها.
أتصور، من قراءة تطورات اللقاءات وتغير السياسات خلال المرحلة الأخيرة، أن كل البدائل، أو الغالبية العظمى منها، طرقها غير ممهدة. العراقيل كثيرة ومفهومة. حتى مصر المأزومة ماليا وربما اقتصاديا عادت فى عرف بعض المفكرين العرب تلعب برغبتها حينا ورغما عنها فى أحيان كثيرة دور الرقم الصعب فى لعبة الأمم فى الشرق الأوسط.
●●●
كثيرة هى الموضوعات التى أثيرت أو تستحق الإثارة عند الحديث عما أنجزته ولم تنجزه مؤتمرات القمة الأخيرة التى نظم لانعقادها البيت الأبيض الأمريكى وشارك فيها الرئيس جوزيف بايدن. ومع ذلك نبقى حائرين أمام التساؤل السلمى والبرىء عن التهرب المتواصل من جانب القوى الغربية الكبرى ومنها الولايات المتحدة عن ترديد مقولة أن بند القضية الفلسطينية تحت أسمائه العديدة ومنها ما يعرف بـ «حل الدولتين» صار يمثل لمنظمى المؤتمرات والسياسات الدولية «مضيعة» لوقت الساسة وبخاصة وقت المؤتمرين.
انفض المؤتمر. لم يضف جديدا، حتى ما قيل عن عودة أمريكا إلى الشرق الأوسط لن يمثل إضافة معتبرة. ومع ذلك فالمؤتمر بنوادره وظروف انعقاده ولفضله على انكشاف تغيرات فى توازن القوى الإقليمية وبنوعية أداء كثير من القادة نجح فى أن يفتح شهية شعوب المنطقة ومفكريها لتجرب حظها مرة أخرى مع مشروع عربى جديد للتكامل الاقتصادى والتنمية الشاملة يعتمد على اندماج كل الطاقات العربية.