كسرني هذا الرجل

كسرني هذا الرجل

كسرني هذا الرجل

 العرب اليوم -

كسرني هذا الرجل

بقلم: جميل مطر

أذكر أنك سألتنى ذات يوم قبل عشرين عاما عن سر السعادة المفاجئة التى شملتنى فتبدل شكلى وتغير مظهرى. قلت لى يومها عن طريق المديح أننى أبدو أطول مما كنت عليه قبل أسبوع. فرحت بانتباهك وسعدت بإطرائك. لم أصرح لك يومها بأن الكعب العالى الذى صرت أعتليه فى جميع أحذيتى هو المسئول عن هذه الزيادة فى الطول. لم أخبرك وقتها أن ما بدا لك تبدلا فى الشكل وتغيرا فى المظهر وتطورا فى الملبس بما فيه الكعب العالى إنما جميعها من معالم حالة طارئة من سعادة حلت بفتاة لم يسبق لها أن مارست حالة مماثلة طوال سنوات مراهقتها وأوائل سنين شبابها.

سألتنى أيضا إن كنت أستطيع أن أصف فى عبارة موجزة مشاعرى وقد رأيتها فائضة. استغربت تعبيرك فكان ردك أشد غرابة. قلت وقتها بالنص «أفهم أن تلتقى بشاب فى مثل عمرك واقع فى حبك منذ سنوات فتجدين نفسك تكادين تلقى بنفسك فى أحضانه قبل أن ينطق بحرف. ولكن ما أراه أمامى يتجاوز ما حاولت تلخيصه فى كلمات قليلة، أرى عيونا تحتضن رجلا لم أتعرف على تفاصيل وجهه وشفاها تتمتم باسم لم أتبينه بالوضوح الكافى..».
قاطعتك لأستكمل بنفسى ما بدأت أنت فى تخمينه عن رجل التقيته. قلت إننى لن أخيب خيالك الذى عرفناه دائما خصبا وفائرا. دعنى أضيف بكل تواضع إلى ما تفضلت عبارة فصلتها تفصيلا بينما كنت تحدثنى عن الزيادة فى طولى وعن عيون تحتضن رجلا وعن شفاه تلتهم، آسفة أقصد، تتمتم باسمه. أما العبارة التى نطقت بها فى وصف اللقاء الأول، فكانت «لقاء كارتطام الأجرام»، ما أن تلامست اليدان حتى وقع ما لن يفهمه أو يتوقعه غير المحبين. بل أرجو أن تسمح لى بمزيد من تجاوز فى لغة الخطاب مع إنسان يكتب عن الحب والمحبين وعن دخائلهم وحساسياتهم ومبالغاتهم وأحلامهم. أتجاوز فأقول إن هذه اللحظة، لحظة التقاء اليدين لأول مرة قد تكون اللحظة الفاصلة بين عمرين، عمر يسبقها وعمر آخر يتلوها. عندها تذوب فروقات الزمن، هل نحسب ما فات أم نكتفى بما هو آت عندها أيضا يسقط المنطق وتنصهر قوى المقاومة. عندها يولد الحب ويعيش رضيعا تهون من أجل سلامته وصحته صعاب الأيام وسهر الليالى. كم ضحينا فى حياتنا من أجل كبار وصغار يعنوننا فى كثير وقليل. كم ضحينا من أجل طموحات فى العمل ومن أجل أشياء ضرورية بأشياء تافهة. الآن وقد أصبح لدينا هذا الحب، هذا الرضيع الأول فى حياتى الذى كلفنا عديد التضحيات، لم يعد لدينا من التضحيات الفائضة ما يمكن أن نقدمه له ولغيره من عظائم الأمور.
• • •
تزوجنا ومرت سنوات ورضيعنا لا يكبر. غريب أمره أو غريب أمرنا. الزوج الذى ركع ذات يوم ليؤكد أنه أقسم أمام أهل الخير أن شيئا أو أمرا أيا كان لن يجعله يحيد عما انتواه من حياة يتوسطها الحب ولا يفرق بين طرفيها أحد أو ظرف، هذا الرجل وقد صار زوجا اكتشف لنفسه بعد سنوات معدودة أن الحب الذى ربطنا هو نفسه الذى يفرق بيننا. لم يبق اكتشافه سرا ولم يعتبره أمرا خاصا بنا وليس شأنا عاما ليهتم به كل الخلق.
رضيعنا الأوحد صار الفسحة والمبرر. الفسحة والمبرر فى آن ليمارس زوجى ما شاء له مزاجه أن يمارس، يمارسه بحرية وفى راحة نفسية ودون أن يضع فى حساباته وزنا لمزاجى ووقتى وجسدى المنهك بعد يوم عمل شاق. حجته الحق الممنوح له بالعقيدة والعادات والرغبات. استخدم الحق بمنطق حق الوحش فى فريسة وحق السلطان فى جاريته وحق رب البيت فى التهام القطعة الأفضل شكلا والأّذكى رائحة فى صحن المشويات على مائدة الغذاء. باسم هذا الرضيع، باسم هذا الحب، صار يتحكم فى ملبسى. إنها الغيرة يعترف بها بلا خجل. تعلمت وقت الطفولة والمراهقة، أن الغيرة ليست حكرا على النساء. حذرونى من الوقوع فى شراكها. قالوا عنها ما كنا نقرأه عن مصاصى الدماء. يشربون من دماء ضحاياهم حتى يسكرون ثم يتضورون فى الليل ألما وعذابا فأنيابهم لا تكف عن عض أى رقبة يسوقها حظها إلى طريقهم، طريق الآلام والشرور.
• • •
قضى زوجى وبطل قصتى وقصص أخريات كثيرات، قضى الشهور الأخيرة من عمر حبنا يستغل حبى له فى جهود متواصلة لإقناعى أن حقا من حقوقه كطرف ثان فى هذه العلاقة الرائعة أن يحكى لى كل ليلة وبالتفصيل الهادف المزود بالصور والأفلام التوثيقية والتسجيلات الصوتية حكايات لا تنتهى، لا تنتهى عددا ولا تنتهى إلا ليبدأ غيرها، حكايات عن غزواته فى ميدان معشر النساء. جربت حظى مع هذه اللعبة الجديدة فى ملاعبى، وهى الحافلة بالألعاب وجميعها بالتأكيد أنعم وأظرف وأرق من ألعابه التى راح يزجها كل ليلة على مسامعى لغاية لم أستشفها فى البداية. بعد شهور من ممارسة هذه المباراة تسرب الشك أنه يسعى لإثارة غيرتى. يحكى عنها مطمئنا إلى أن الحب سوف يزيد من قدرتى على التفهم ويمط فى سعة طاقتى التسامح والتقبل عندى لما هو قادم. لم أفهم إلا بعد وقت غير قصير أنه كان يسعى إلى كسر إرادتى بعد أن يكون قد نجح فى تفكيك أهم روابط علاقتنا وإرساء قواعد مختلفة لعلاقة جديدة تقوم بيننا. أراد، كما اتضح لى فيما بعد، أن يموت الرضيع. تخمد العواطف وتقوم الإرادة المشتركة المبنية على فهم مشترك لمصالح محددة مادية بشكل خاص ومنفعية بشكل عام. يعتمد نجاح المشروع من ناحيتى على ثراء شبكة علاقاتى الاجتماعية والسياسية ومن ناحيته على دهائه وتغلغل شبكة علاقاته فى المسالك التحتية وجماعات العنف فى المجتمع.
كسرنى هذا الرجل. انكرست لا لأننى ضعيفة أو أقل ذكاء أو لأننى ساذجة أو لأننى كغيرى من عامة النساء نجهل حقيقة جنس الرجال. أنا انكسرت لأننى استهنت بقوة الحب. كانت فى يدى وبين أضلعى عاطفة كالسحر لها قوة الصخر. سمحت له بأن يستغلها لصالح إرادته البشعة بدلا من أن أستعملها أنا لكشف أساليبه وطرده فى وقت مبكر من زواج أحلى أيامه كان يوم طلاقى.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كسرني هذا الرجل كسرني هذا الرجل



هيفا وهبي تعكس الابتكار في عالم الموضة عبر اختيارات الحقائب الصغيرة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 11:08 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

أفضل خامات الستائر وتنسيقها مع ديكور المنزل
 العرب اليوم - أفضل خامات الستائر وتنسيقها مع ديكور المنزل

GMT 13:03 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

البطولات النسائية تسيطر على دراما رمضان 2025
 العرب اليوم - البطولات النسائية تسيطر على دراما رمضان 2025

GMT 13:51 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

إيران لم تيأس بعد من نجاح مشروعها!

GMT 17:42 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

برشلونة يتعاقد مع مهاجم شاب لتدعيم صفوفه

GMT 02:25 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

سنتان أميركيتان مفصليتان في تاريخ العالم

GMT 12:15 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب جنوب شرق تايوان

GMT 12:05 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

انفجار قنبلة وسط العاصمة السورية دمشق

GMT 02:41 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

ترامب والأردن... واللاءات المفيدة!
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab