بقلم: جميل مطر
لا يخفى على أحد، بعيدا كان عن دهاليز السلطة السياسية أم قريبا منها أم محشورا فيها، أن العالم على وشك أن يشهد تدشين نظام دولى جديد أو الإعلان عن إدخال تعديلات جوهرية على جوانب معينة فى هياكل النظام القائم ومبادئه. أسمع كثيرا عبارة العالم فى حال فوضى. أسمع مسئولين فى السياسة كما فى الاقتصاد وفى الإعلام يرددونها وأسمع باعة فى أسواق الخضر والفاكهة يلقون عليها باللوم والمسئولية عن جنون الأسعار وغضب الناس. أجدنى اليوم أتحدث أو أكتب عن الظاهرتين ظاهرة الفوضى الضاربة فى العالم وظاهرة الحديث المتكرر عن ضرورة صياغة نظام دولى جديد، فى تعاقبهما اللافت للانتباه.
أذكر جيدا أننى وأنا طالب دراسات عليا كان من حسن حظى العمل مع أستاذ تخصص طويلا فى دراسة نظريات العلاقات الدولية وأدلى بدلوه فيها من خلال كتب ومقالات نشرت له. كان يقول إن العالم فى كل مرة اقترب سياسيا من وضع معالم نظام دولى جديد كان قد خرج لتوه أو على وشك أن يخرج من حال عدم استقرار طويل الأجل أو عالى العنف والتدمير كالحرب أو الاضطرابات. أظن، وقد ابتعدت شيئا ما عن سياقات وقاعات الأكاديمية، أن كثيرا مما كان يتردد فى زمان دراستى ونعتبره اجتهادا محمودا، صار فى أيامنا الراهنة علما مثبتا وموثقا.
أتصور، وفى ذهنى ما نقرأ ونسمع ونعايش، أننا نعيش أياما قريبة الشبه فى كثير من نواحيها بأيام عاشها العالم قبل انعقاد مؤتمر فيينا فى مطلع القرن التاسع عشر وهو المؤتمر الذى دشن نظام توازن القوى الأوروبى، هذا النظام الذى استمر مهيمنا وفعالا إلى أن اختلت توازنات القوة فى القارة بأول توحيد لألمانيا بقيادة بروسيا، ثم تسربت عناصر وأيديولوجيات الفوضى إلى داخل إمبراطورية النمسا والمجر متسببة فى فوضى أكبر وأشمل على امتداد القارة. فى الوقت نفسه دخل الاستعمار عنصرا رئيسا فى منظومة العلاقات الأوروبية مثيرا تفاعلات وتحولات شتى انتهت بنشوب الحرب العالمية الأولى.
لم تهتم آنذاك الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة بصياغة نظام دولى جديد يحل محل نظام توازن القوى الذى منع لعقود عديدة نشوب حرب عالمية كبرى. إلا أن أمريكا خلفت مشروعا لمنظومة حقوق نادى بها الرئيس وودرو ويلسون قبل أن يستجيب لإرادة الانعزال التى هيمنت على توجهات الرأى العام الأمريكى المتشكك دائما فى نوايا وسلوكيات الدول الأوروبية، وهى النوايا والسلوكيات التى نجحت فى النهاية فى جذب أمريكا لتصبح شريكا فى حلبة الصراعات الأوروبية وطرفا فى نظام الحرب العالمية.
• • •
انتهت الحرب وانكشف عجز الأوروبيين عن الانتقال من نظام توازن القوى إلى نظام آخر يضمن استقرارا أطول. سيطر عليهم الحذر من تداعيات الثورة البلشفية والرغبة فى الانتقام من الألمان وحرص هؤلاء على استعادة المكانة والقوة. كانت مرحلة من الفوضى الناتجة عن سقوط نظام توازن القوى استغلتها إيطاليا واليابان للتوسع إمبراطوريا فى الحبشة والصين على التوالى. اكتملت الفوضى بنشوب الحرب العالمية الثانية وانضمام الولايات المتحدة إليها مدفوعة بنية وضع نظام يضمن الاستقرار ويمنع نشوب حرب عالمية ثالثة. أفلحت الولايات المتحدة. وضعت مشروعا متعدد الأبعاد لنظام دولى جديد تم إقراره. ثم أقامت مع الاتحاد السوفييتى قطبية ثنائية استطاعت بدورها حفظ الاستقرار العالمى ضد التعددية وغلوائها التى كشف عن جانب منها نظام توازن القوى عند تطبيقه فى القرن التاسع عشر والفترة بين الحربين العالميتين فى القرن العشرين. تخللت مرحلة القطبية الثنائية، والمرحلة التالية التى شهدت نظام القطبية الأحادية بعد انفراط الاتحاد السوفييتى، حروبا محدودة شنها قطب أو آخر. شنت أمريكا حربا فى كوريا ضمن سلسلة من حروب من داخل نظام القطبين مثل الحرب الكورية وحرب فيتنام. استغلت أمريكا ظروف نشأة النظام الدولى لتقيم مع الاتحاد السوفييتى دولة إسرائيل على أرض يسكنها شعب فلسطينى. كانت القطبية الثنائية مفيدة أيضا للقطب السوفييتى إذ سمحت له بتعزيز هيمنته الأيديولوجية على دول فى شرق ووسط أوروبا وشمال وسط آسيا وفى القوقاز. سمحت أيضا لهما الواحد بعد الآخر بغزو أفغانستان واستغلال ثرواتها من المعادن وغيرها من المواد الخام. ولا ننسى أن أمريكا خلال انفرادها بقيادة العالم زيفت أو اختلقت معلومات لتشن حربا ضد العراق ما زال يعيش فى ظل آثارها البشعة.
• • •
على كل حال يحسب لهذا النظام الدولى ثنائى القطبية وتابعه النظام الأحادى القطبية أنهما حققا استقرارا فى العالم على امتداد ثلاثة أرباع قرن واستطاعا معا إضعاف مكانة الاستعمار ونفوذ دول أوروبا الاستعمارية فى النظام العالمى. نجحا أيضا فى إشعال جدال مثمر فى شتى القارات وداخل شتى الشعوب حول قضايا إنسانية مثل قضايا حقوق الإنسان ومبادئ الحريات وكذلك قضايا اجتماعية وسياسية مثل الرأسمالية والليبرالية والاشتراكية والعدالة والمساواة. يحسب أيضا للتنافس داخل النظام ثنائى القطبية الفضل فى إثارة أو إنعاش عقائد سياسية من نوع العقيدة القومية ومبدأ السيادة الوطنية والديمقراطية. يحسب لهما فى مرحلة القطبية الثنائية وللنظام الأحادى القطبية فى المرحلة اللاحقة، شجاعة تحمل مسئولية السماح للصين بالصعود نحو هدف معلن، وهو الوصول للقطبية الدولية أسوة بأمريكا وروسيا. هذا السماح، يجب أن نعترف، لم يكن مطلقا بل كانت له حدود فى الوقت كما فى الفعل.
لا ننسى أن زيارة الرئيس نيكسون وهنرى كيسنجر للصين كان لها وقع الثورة داخل منظومة العلاقات الدولية، أعقبها بسنوات قليلة اضطرابات فى كل أنحاء أوروبا الشرقية انتهت بوضع أشبه ما يكون بالثورة داخل منظومة الاتحاد السوفييتى، القطب الثانى فى النظام الدولى قبل أن ينفرط كلاهما نهائيا. كلا الثورتين، زيارة الصين والاضطرابات الشعبية فى أوروبا الشرقية مهدتا لنشأة النظام أحادى القطبية.
لسنا بغافلين عن حقيقة هامة. لقد تزامن صعود الصين مع انحدار بعض قدرات أمريكا من ناحية. تزامن من ناحية أخرى مع انفلات ملحوظ فى ممارسة أمريكا لقطبيتها الأحادية. أدت كثير من السياسات الخارجية الأمريكية خلال هذه الفترة إلى ما يمكن اعتباره عجزا فى المكانة والنفوذ وبالتالى أضافت إيجابيا إلى سمعة صعود الصين اقتصادا ومكانة. هذه المرحلة مستمرة بالرغم من انتباه الطبقة السياسية الأمريكية إلى خطورة هذا الانحدار وانعكاسه على مجمل مصالح الدولة. كانت الأزمة المالية منبها هاما وكذلك كان التدهور الملحوظ فى علاقات واشنطن بحلفائها الغربيين وبشركائها فى العالم العربى. أذكر تماما ما قاله لى صديق أوروبى مطلع على أوضاع أمريكا فى الداخل كما فى الخارج. قال نقلا عن عالم السياسة الكبير صامويل هانتنجتون «أمريكا ليست كذبة. أمريكا خيبة أمل». كثيرون فى أمريكا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط وضعوا ثقتهم فى أمريكا ولم تكن أمريكا على مستوى هذه الثقة. كانت ولا تزال بالنسبة لمعظم هؤلاء أملا، ولكنه الأمل الذى لا يتحقق.
حال الداخل الأمريكى لا يبشر بخير وبخاصة بعد نشر الإحصاءات الأخيرة عن العنف وانتشار الأسلحة النارية، وحال العالم الخارجى لا يبعث بالطمأنينة. ففى آخر نشرة للأخبار سمعت من عناوينها أن تركيا تستعد لتتوسع وإسرائيل تواصل قتل الفلسطينيين وإيران تقتل المحتجين والمظاهرات تجتاح حوالى عشر مدن فى الصين. وفى فرنسا وألمانيا خرج الآلاف يحتجون على التضخم والجماهير فى تونس غاضبة وجماهير الخرطوم عادت إلى الشوارع ومئات الألوف تحتشد فى مسيرة غضب فى باكستان والأمهات فى روسيا تجتمعن للتوقيع على رسالة لبوتين تحمل رفضهن للحرب وفى ليبيا يستعدون لحرب أهلية تستعين بحلفاء أشداء فى الخارج.
• • •
سيل من أخبار يستحق العنوان التالى «الفوضى فى كل مكان وحرب عالمية يدور رحاها فى أوكرانيا». يستحق أيضا الاعتراف بفشل نظام القطبية الأحادية فى تحقيق الاستقرار والازدهار، وبالحاجة الماسة إلى مشروع نظام جديد بفكر جديد لقيادة العالم.