المصابون بالجوع المزمن

المصابون بالجوع المزمن

المصابون بالجوع المزمن

 العرب اليوم -

المصابون بالجوع المزمن

بقلم:د. آمال موسى

تتوغل اللغة في التعبير واقتناص المعاني البعيدة والجديدة كلما ذهبت الإنسانية أكثر فأكثر في البؤس والألم والخيبة. لكأنَّ الألم هو محرك اللغة وسر حيويتها، تماماً كما يفعل الخبز بالتاريخ الاجتماعي للشعوب عندما يجعله يتحرك ويطوي المراحل والعقود والعهود.

عندما ظهرت الأمراض التي لا يمكن معالجتها نهائياً، وتبيَّن أنها لا تقتل ويمكن أن يتعايش معها الفرد المصاب بها، تم ابتكار توصيف أصبح رائجاً، اليوم، وهو: المرض المزمن.

أيضاً مع ظهور مشكلة الماء وأزماته في كوكب الأرض، بِتنا نتحدث على مستوى أممي بدرجات الحاجة إلى الماء: دول تعاني من الفقر المائي، وأخرى من الشح المائي، وكلها توصيفات أصبحت حاضرة بقوة في معجم التغيرات المناخية.

هذا الإبداع اللغوي في توصيف التورط في الأمراض وتراجع منسوب المياه والدرجات المعبرة عنه بكل دقة، قد تسرَّب أيضاً إلى عالم الجائعين، ليتم تصنيفهم بالدقة ذاتها، حيث هناك فرق بين المصاب بالجوع المزمن، والذين يقدَّر عددهم، حسب آخِر التقارير الأممية، بـ733 مليون نسمة، وبين الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، والبالغ عددهم أكثر من مليارين.

نعتقد أنه من المهم الانتباه إلى هذه التوصيفات الجديدة التي تكشف عن واقع جديد لم يكن موجوداً، إذ اللغة هنا هي بذاتها تلبي حاجة من حاجيات الواقع الجديدة، بخاصة أن المصابين بالجوع المزمن تبلغ نسبتهم 10 في المائة، وفي أفريقيا ضِعف هذه النسبة، بل إن ما يزيد في قتامة هذه الأرقام والأوصاف أن التقارير الأممية تؤكد تزايد عدد المصابين بالجوع، وهو ما يعني أن العالم يسير في طريق خاطئة، وأن هناك مشكلة، وأن كل الحلول المقترحة أثبتت فشلها؛ بدليل أن النزيف لم يتوقف ولم يتراجع.

لماذا ظل العالم يدور في حلقة مفرغة؟ كيف يمكن التكيف مع كل الحجم الهائل من المتناقضات؛ حيث البذخ والجوع المزمن، وحيث الأمية والرقمنة وتكنولوجيا الاتصال، وحيث العالم بمعنى القرية الصغيرة وعالم انعدام المساواة والتفاوت، وحيث حقوق الإنسان والحرية واغتيال الأطفال وقتل النساء؟

لم تعالج الإنسانية مشاكلها الأولية جميعها، وجميعنا لذلك لم نبارح وضعية الدوران في حلقة مفرغة.

وأغلب الظن أن عملية الدوران ستتواصل؛ لأنه من غير الممكن الذهاب نحو رفاهية كوكب الأرض وجودة الحياة والحريات الفردية، والحال أن المجتمع الإنساني لم يعالج بعدُ الحقوق الأساسية والحريات العامة. لا نستطيع أن نحلم ونطمح، وقرابة نصف سكان الكرة الأرضية يعانون؛ إما من الجوع المزمن، أو من انعدام الأمن الغذائي. نحن أمام حاجة حيوانية لم نعالجها وهي مانعة للارتقاء الإنساني. المصاب بالجوع المزمن هو فرد خارج الدور واللعبة والحياة.

والأدهى والأمرّ هو أن هذه الأعداد في تزايد؛ لأن الأزمات في العالم لم تُحسم بشكل يجعلنا نستنتج أن أكثر الإنسانية تحترق وتجوع من أجل قلة تنعم بما تبقّى من خيرات الأرض، لذلك فإن الخطط الأممية حول التنمية، وصولاً إلى خطة تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ ليس فقط لن تحقق الأهداف، بل إن الصدمة ستكون هائلة بحكم تضاعف الأرقام والمشكلات، وتضاعف عدد الذين سيكونون خلف الركب.

وفي الحقيقة، منذ عقود والمجتمع الأممي يتلقى الصدمة تلو الأخرى، وتقريباً كل الخطط باءت بالفشل، وبدل البحث عن الأسباب ومواجهتها بشجاعة، وتحميل الفاعلين المسؤولية، فإننا نغيّر الخطة، وكأن المشكلة في الخطة! وننسى أن المشكلة في الواقع والفاعلين فيه؛ وهما المعنيان بالتغيير أولاً وأخيراً.

هناك مواضيع تحظى بالاهتمام على مستوى عالمي، ولكن يبدو لنا لن تحل الإنسانية أي مشكلة إلا بعد أن تنجح في معالجة ظاهرتي الفقر والجوع، والحد من عدد المصابين بهما. والقضاء على الفقر والجوع يكون بالتقليص من المصابين المحتملين بهما. لذلك فإن العالم يحتاج إلى نقاش صريح للتركيز على هدف بعينه. لا يمتلك العالم طاقة مواجهة الأهداف دفعة واحدة، رغم ما تتميز به الأهداف من شمولية.

يبدو أن العالم في خطة الإصلاح والدفاع عن الإنسان كان عليه أن يكون صارماً في الحقوق الأساسية، ثم لكل حادث حديث.

ولا بد من مؤتمرات حول الجوع المزمن؛ فلا شيء أكثر خجلاً للإنسانية من الموت جوعاً أو عطشاً، اليوم.

 

arabstoday

GMT 05:18 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

أمة الرواد والمشردين

GMT 05:16 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

يوليو جمال عبد الناصر وأنور السادات

GMT 05:15 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

المسلمون والإسلاميون في الغرب

GMT 05:13 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

في مدح الكرم

GMT 05:12 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

إنها أزمة مصطلحات!

GMT 05:10 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

أميركا واختبار «الديمقراطية الجندرية»

GMT 04:33 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

لبنان بين حربي 2006 و2024

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المصابون بالجوع المزمن المصابون بالجوع المزمن



ميريام فارس بإطلالات شاطئية عصرية وأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 11:29 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

قصف تركي عنيف علي محافظة أربيل العراقية

GMT 12:19 2024 الخميس ,25 تموز / يوليو

الحيل التي تتبعها أصالة لإبراز خصرها النحيل

GMT 11:58 2024 الخميس ,25 تموز / يوليو

جولة على أبرز أحياء العاصمة باريس

GMT 11:47 2024 الخميس ,25 تموز / يوليو

كارول سماحة بإطلالات راقية وجذّابة

GMT 11:32 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

أوكرانيا تعلن قصف مطار عسكري روسي في القرم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab