الشعر على الشعر هَل غادر الشّعراء من متردم

الشعر على الشعر: هَل غادر الشّعراء من متردم؟

الشعر على الشعر: هَل غادر الشّعراء من متردم؟

 العرب اليوم -

الشعر على الشعر هَل غادر الشّعراء من متردم

بقلم - تركي الدخيل

يقول الرسول صلى الله عليه: «إن من البيانِ سحراً، وإنَّ من الشِّعرِ حِكمةً». ويقول ابن قتيبة عن الشعر: «الشِعرُ مَعْدِنُ عِلْم العرب، وسِفْرُ حِكمتِها، وديوان أخبارها، ومُستَوْدعُ أيامها، والسُورُ المضروبُ على مآثرها، والخَندَقُ المحجوزُ على مفاخِرها، والشاهدُ العَدْلُ غيومَ النَفار، والحُجةُ القاطِعةُ عند الخِصَام». وما أحسن قول الرافعي في تاريخ آداب العرب: «هذه الأمة من أمم الفطرة، فليس لديها من أسباب التعلم والأخذ عن الأمم الأخرى شيء، فلا بد أن يكون شعرها كمالاً في اللغة، فلم ينطقوا به حتى هذبت وصفيت وصارت إلى المطاوعة في تصوير الإحساس وتأديته على وجهه الأتم».
وإذا سألت: متى بدأ الشعر؟ أجابك ابن رشيق، قائلاً: «كان الكلام كلُّه منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقِها، وطيبِ أعراقها، وذكر أيامِها الصالحة، وأوطانِها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهزّ نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعراً؛ لأنَّهم قد شعروا به، أي: فطنوا له».
إنَّ الأسئلة حول الشعر، وعنه، بحرٌ لا ساحل له، وليس أجدر من الشعر بالإجابة عن سؤالات الشعر، وهنا وضع د. علي بن تميم، مصنفاً رائقاً، عنونه بـ«كتاب الشّعر على الشّعر»، ضمن سلسلة «عيون الشعر العربي»، الصادرة عن مركز أبوظبي للغة العربية، ليقدِّم إجابةً فريدةً في منهجها، قوامُها مختاراتٍ منتقاةٍ بعناية، تُجيب عن الشاعر بشعره هو لا بفهم الناس. فيُبرِز جدلية الشّعر كما تتجلى في الشّعر!
زبدة الكلام، وبيت القصيد، ساقتني بعد صفحاتٍ، إلى رحال أبي فراس الحمداني، وهو يَزن الشعر، بقوله:
الشِّعْرُ ديوانُ العَرَبْ
أَبَداً وَعُنْوَانُ الأدبْ
لَمْ أعد فيهِ مَفَاخِرِي
وَمَديحَ آبائي النُّجب
وَمُقَطَّعاتٍ رُبَّما
حَلَّيْتُ مِنْهُنَّ الكُتُبْ
لا في المَديحِ وَلا الِهجاءِ
وَلا المُجونِ وَلا اللَّعِبْ!
ولا تفوت فطنة القارئ، أنّ أبا فراس، إذ يُثني على الشعر بعامة، يَخُص شِعرهُ، عائباً من طرف جَلي، وَطعن ذَكي، شعراءَ عصره، الذين زاحموه في بلاط ابن عمّه، سيف الدولة الحمداني، مثل: النّامي، والببغاء، والوأواء، وابن نباتة، وكشاجم، والصنوبري، وأبو علي الفارسي! إنهم كتيبة من فحول الشعراء، فما بالك بجيش الجيوش؛ أبو الطيب المتنبي؟
وإن كان الشّعر ديوان العرب، وخزانة الأدب، فإنّ المديح فيه؛ كفيل بالحفاظ على جعل الصفات الحسنة مطلوبةً، مشتهاة!
تقول العرب: «النّاس أحاديث»، فينبري واحدهم لصنوف الإحسان، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وصنائع المعروف، ليصبح خَبَرهُ شائعاً، واسمه خالداً، بقصيدةٍ تبقى، وأبياتٍ تُروَى، وذكرٍ لا يبلَى.
وأجمل بقول ابن الرومي:
أرى الشّعرَ يُحْيي المجدَ والبأس
والندى تُبَقِّيهِ أرواحٌ لها عَطِراتُ
وما المجدُ لولا الشِّعْرُ إلَّا مَعاهِدٌ
وما النّاسُ إلَّا أعْظُمٌ نَخِراتُ!
لقد أخذ المتنبي بِلُبِّ سيف الدولة، وسحَرَه بشعرِه... لكنه اعتبر قصائده توازي فِعال الطيب، فيقول:
إِذا كانَ بَعضُ الناسِ سَيفاً لِدَولَةٍ فَفي الناسِ بوقاتٌ لَها وَطُبولُ
أَنا السابِقُ الهادي إِلى ما أَقولُهُ إِذِ القَولُ قَبلَ القائِلينَ مَقولُ
وَما لِكَلامِ الناسِ فيما يُريبُني أُصولٌ وَلا لِلْقَائِليهِ أُصولُ
أُعادي عَلى ما يوجب الحُبَّ لِلفَتى وَأَهدَأُ وَالأَفكارُ في تَجولُ
ويزيد على هذا المتنبي إذ يقول، فيما ينقله صاحب «الشعر على الشعر»:
أجِزني إذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
بِشِعري أتاكَ المادِحونَ مُرَدَدا
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا (الطائِرُ) المَحكِي والآخَرُ الصَّدى!
وفي روايةٍ الصائح، أو الصائت، وكلاهما بليغ، والأبيات من قصيدة «الأستاذ»، التي في بدايتها يقول: «لكل أمرئٍ مِنْ دَهْرِهِ مَا تَعَوّدَا»، وفيها يقول لسيف الدولة؛ عائذاً به من حاسديه:
أَزِلْ حَسَدَ الحُسَّادِ عَنّي بِكَبتِهِمْ فَأَنتَ الَّذي صَيَّرتَهُمْ لِي حُسَّدَا!
وبالعود إلى ما يخلّده الشّعر من حُسنِ الفعال والأمجاد، فالشاعر يعي ما يقدّمه، فمهر المديح الحق ليس المال، ولكنه الفعل الحَسن، فلله در أبي تمام، الذي قال:
يا خاطبا مَدحي إِلَيهِ بِجودِهِ
وَلَقَد خَطَبتَ قَليلَةَ الخُطَّابِ
خُذهَا اِبْنَةَ الفِكرِ المُهَذَّبِ في الدُّجى
وَاللَّيلُ أَسوَدُ رُقعَةِ الجِلبابِ
بِكراً تُوَرِّثُ في الحَياةِ وَتَنثَني
في السِّلمِ وَهي كَثيرَةُ الأَسلابِ
وَيَزيدُها مَرُّ اللَّيالي جدة
وَتَقادُمُ الأَيّامِ حُسنَ شَبابِ
والحق، أن الشّعر يحمي الحقيقة، ويكرّس لحظة المجد القومي، كما قال الفرزدق «أنا الشاعر الحامي حقيقة قومه»، ولكنه يزيد على الحقيقة ظلالاً تُفَجِّر المعنى، وتجعله حيّاً، فبذلك فاق الشّعرُ النّثر والخطبة؛ التي مهما بلغت من بلاغةٍ فإنّ معانيها لا تستولد الحماسة والشعور ذاته، الذي يبلغه الشّعر. فالشّعر ولو تكرر، يدفعك لفعلٍ ويندبك لحماسة، فإن كنت غاضباً أرضاك، وإن كنت ساكناً حرّكك، وإن كنت ملتاعاً سرّى عنك، وهكذا.
فلئن قال قائل؛ إن (الأحوص الأنصاري) قال:
وما الشّعر إلا خطبة من مؤلّفٍ
بمنطق حق أو بمنطق باطل
فإنما قالها، لمّا استحلفه عمر بن عبد العزيز ألّا يقول إلا حقاً، فانبرى في قصيدته يقول، وكأني به يتنزّل في الخطاب، ويراوغ بسحر البيان، إلى أنّ جَيَشَ المشاعر، فقال:
وَلَكِن رَجَونا مِنكَ مِثلَ الَّذي بِهِ... صُرِفنا قَديماً مِن ذَويكَ الأفاضِلِ
فَإِن لَم يَكُن لِلشِّعرِ عِندَكَ َموضِعٌ... وَإِن كانَ مِثلَ الدُّرِّ مِن قَولِ قائلِ
وَكانَ مُصيباً صَادِقاً لا يَعيبُهُ... سِوى أَنَّهُ يُبنى بِناءَ المَنازِلِ
فَإِنَّ لَنا قُربى وَمَحضَ مَوَدَّةٍ... وَميراثَ آباءٍ مَشَوا بِالمَناصِلِ
فالشّعر يترك نقرةً في نفس السّامع، ويفجّر المعنى، فيختصر القائل بشطر بيت، خطبةً طويلة! لذا يستأنس به مرهف الحِس، ويرتاح له سريع البديهة، ويتملّا ببعضه من تأسره الإشارة وتكفيه اللمحة، ولله در البحتري إذ يقول:
وَالشِّعرُ لَمحٌ تَكفي إِشارَتُهُ
وَلَيسَ بِالهَذرِ طُوِلَت خُطَبُه
فالشاعر حكيم، وإن لم يقل في الحكمة شعره، يقول الأعشى:
وفضّلني في الشِّعرِ واللّب أَنّني
أقولُ على علمٍ وأعلمُ ما أَعني
قال المتوكل الليثي:
الشِّعرُ لُبُّ المَرءِ يَعرِضُه وَالقَولُ مِثلُ مَواقِعِ النَّبلِ
مِنها المُقَصِّرُ عَن رميَتِهِ وَنَواقر يُذهِبنَ بالخَصلِ
وهو قريب من قول حسان بن ثابت:
وَإِنَّما الشِّعرُ لُبُّ المَرءِ يَعرِضُهُ عَلى المَجالِسِ إِن كَيساً وإِن حُمُقاً
وَإِنَّ أَشعَرَ بَيتٍ أَنتَ قائِلُهُ بَيتٌ يُقالَ إِذا أَنشَدتَهُ صَدَقاً
ولعل الصدق المقصود هنا، ليس صدق الخبر، وإنما صدق التعبير عن شعور الناس. وهذا يعلمه عارف الشّعر، وقد قيل للمُفضل الضَبِيّ: لم لا تقول الشّعر وأنت أعلمُ الناس به؟ قال: عِلمي به يمنعُني من قوله. وأنشد:
أَبَى الشِعْرُ إِلَا أَنْ يَفِيء رَدِيْئُهُ... عَلَي ويَأْبَى مِنْهُ مَا كَانَ مُحْكَمَا
وهو قريب من قول ابن المقفع (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه).
والحق ما قال دعبل الخُزَاعِيُّ:
يَموتُ رَديءُ الشِّعرِ مِن قَبلِ أَهلِهِ
وَجَيِّدُهُ يَبقى وَإِن ماتَ قائِلُه
من يُحِب الشعر، يطرِز يومه بأبيات منه، وقد لا ينشغل بتعريف الشاعر، بل يراه ذاك الناطق عنّا، والناسج لمجدنا، والعارف لفضل ثقافتنا.
وصَل علي بن تميم، في مختاراته البديعة، إلى أمير الشّعراء أحمد شوقي، وإلى حافظ إبراهيم، وإذ تمتعت برفقة كتابه، فإني حزنت أنه انتهى، ومنيت نفسي بأن يزيد؛ الدكتور في الجزء التالي مختاراتٍ معاصرة، للجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد ومحمد الثبيتي وعبد الرحمن بن مساعد وغيرهم، تُعرّفنا بما يقوله الشاعر عن الشّعر والشّعراء في عصرنا المليء بالبطولات التي تنتظر من يوثقها.

 

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشعر على الشعر هَل غادر الشّعراء من متردم الشعر على الشعر هَل غادر الشّعراء من متردم



إطلالات حمراء جريئة للنجمات على سجادة مهرجان البحر الأحمر

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 07:51 2024 الخميس ,12 كانون الأول / ديسمبر

أفكار لملابس تناسب شتاء 2025
 العرب اليوم - أفكار لملابس تناسب شتاء 2025

GMT 09:35 2024 الخميس ,12 كانون الأول / ديسمبر

أفكار لتنظيم غُرفة النوم بطريقة تخلق أجواء هادئة ومريحة
 العرب اليوم - أفكار لتنظيم غُرفة النوم بطريقة تخلق أجواء هادئة ومريحة
 العرب اليوم - مقتل 54 صحافياً في عام 2024 ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية
 العرب اليوم - اكتشاف تمثال يكشف الوجه الحقيقي لكليوباترا في معبد تابوزيريس

GMT 08:45 2024 الخميس ,12 كانون الأول / ديسمبر

بيل كلينتون يُطالب بايدن بعفواً استباقياً لزوجته هيلاري
 العرب اليوم - بيل كلينتون يُطالب بايدن بعفواً استباقياً لزوجته هيلاري

GMT 16:39 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

التأثير الإيجابي للتمارين الرياضية على صحة الدماغ

GMT 06:13 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

تجربة علاج جيني جديد تظهر تحسناً مذهلاً في حالات فشل القلب

GMT 06:09 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

روبوت كروي ذكي يُلاحق المجرمين في الشوارع والمناطق الوعرة

GMT 20:19 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

الفنان جمال سليمان يبدي رغبتة في الترشح لرئاسة سوريا

GMT 18:20 2024 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

بشار الأسد يصل إلى روسيا ويحصل على حق اللجوء

GMT 02:54 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

480 غارة إسرائيلية على سوريا خلال 48 ساعة

GMT 22:09 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

داني أولمو مُهدد بالرحيل عن برشلونة بالمجان

GMT 08:24 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... محاولة في إعادة ترتيب الآمال والمخاوف

GMT 04:49 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

وزارة الصحة الكينية تسجل 5 حالات إصابة جديدة بجدري القردة

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

استئناف عمل البنك المركزي والبنوك التجارية في سوريا

GMT 05:03 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

وزير الدفاع الكوري الجنوبي السابق حاول الانتحار في سجنه

GMT 12:06 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

إجلاء نحو 87 ألف شخص بعد ثوران بركان كانلاون في الفلبين

GMT 22:40 2024 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

الملك تشارلز والملكة كاميلا يصدران بطاقة الكريسماس

GMT 12:28 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

محمد رمضان يكشف أسباب تقديمه الأعمال الشعبية

GMT 05:43 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

سوريا: أفراحٌ... وهواجس

GMT 23:43 2024 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

عائشة بن أحمد وكريم فهمي يجتمعان في فيلم دماغ ألماظ

GMT 10:56 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

قطر تعلن عزمها إعادة فتح سفارتها في سوريا قريباً

GMT 12:51 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

العربية للطيران تستأنف رحلاتها بين الشارقة وبيروت 18 ديسمبر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab