الدَرسُ الأول المُعلم مَلِكٌ والتلميذُ جميل

الدَرسُ الأول... المُعلم مَلِكٌ... والتلميذُ جميل!

الدَرسُ الأول... المُعلم مَلِكٌ... والتلميذُ جميل!

 العرب اليوم -

الدَرسُ الأول المُعلم مَلِكٌ والتلميذُ جميل

بقلم - تركي الدخيل

وقد تحملُ لك الأقدارُ ما تَجْفَلُ مِنهُ إِذا أَطَلَّ عليك، فإذا هو عين الخِيرة، فالله ألطفُ بالعبد منه بنفسه.

ما كاد الفتى المُتَّقِد حَمَاسَةً وطموحاً يتخرَّج في كلية الحقوق، في جامعة فؤاد، عام 1950، ضِمنَ ثُلَّةٍ معدودة من طليعة أبناء وطنه الجامعيين، حَتَّى أصدر الأمير فيصل بن عبد العزيز، نائب الملك بالحجاز، وزير الخارجية، قرار تعيينِه في يناير 1951، مُلحَقَاً دبلوماسياً بالخارجية.

بعد عام وثلاثةِ أشهر من تعيين الشاب، أَوكَلَ مستشار الملك عبد العزيز، رئيس الشعبة السياسية بالديوان الملكي، الشيخ يوسف ياسين، إليه مُهِمَّة الترجمة في لقائه وزيرَ الخارجية الأسباني، روبرتو خوزيه أرتاخو، الذي يزور السعودية، ويتحدَّث اللغة الفرنسية، ولم يكن في الديوان الملكي من يتقنُها، ما استدعى تكليف صاحبِنا، جميل الحجيلان، ذي الخمسة والعشرين ربيعاً، بالترجمة.

بعد اللقاء، قال الشيخ ياسين، للحجيلان: جَهِّز نَفسَكَ، للسفر غداً إلى الرياض! وما كاد الشَّاب يرسم على وجهه استفهاماً عن غايةِ السفر، حتى عاجَلَهُ الشيخُ المستشارُ، قائلاً: ستُتَرجِمُ لقاء الملك عبد العزيز والوزير الإسباني. فَنَزَلَ الخَبَرُ على جَمِيلٍ ليَهُزَّ كِيَانَهُ، ويُزَلْزِلَ أَركَانَهُ، ولمَّا رَأَى الشَيْخُ الشَّابَّ قَلِقَ الخَاطِرِ، مَشْغُوْلَ القَلْبِ، مُضْطَرِبَ البَالِ، سَأَلَهُ: أَتَهَابُ المَلِك عبد العزيز، وبينكما ألفُ كيلو متر؟! فَرَد الحجيلان: إني لِمُجَرَّد ذِكرِ الملك ترتعد فرائصي، مَهابةً لجلالته وإجلالاً وتوقيراً. صحيح أنَّ جميلاً استحضر عِظَمَ المُهِمةِ، وثِقَلَ المسؤُولِيَةِ، لِكِّنَ ذلك حَدَثَ لِمَا نَشَأَ عليه، كما غيره من العقيلات، من محبة الملك الذي وَحَّدَ شَتَاتَ بِلادِهُم، وحَوَّلَ خوفَها أمناً، وضعفَها قوةً، وفرقتَها وحدةً؛ إنَّها المحبة التي تُنبِتَ الإعظام، والإجلال، والتوقير.

رَأَيْتُ مَهَابَةً ولِيُوثَ غَابٍ

وَتَاجَ المُلكِ يَلْتَهِبُ التِهَابَا

الشيخ يوسف ياسين، ذو الـ63 عاماً، حينَها، كان قضى مع الملك عبد العزيز ثلاثةَ عقودٍ، أَهّلَتْهُ ليكونَ بَصِيرَاً بطبائعِ المؤسس، فهو المستشار المُقَرَّبُ للملك.

وبمَا لياسين من دَالَّةٍ على جميل، أَلَانَ لَهُ أَعطَافَ رَحمَتِهِ، فأَمسَكَ بِيَدِهِ، وسَارَ مَعَهُ، مُشَجِّعَاً ومُحَفِّزَاً، مُرَدِّدَاً على مَسَامِعِهِ بَيْتَ أَبي القَاسِمِ الشَّابِّي:

وَمَنْ يَتَهَيَّبْ صُعُودَ الجِبَالِ

يَعِشْ أَبَدَ الدَهْرِ بَيْنَ الحُفَرْ

إِنَّهُ بيت، يجلو وَجَلَ النُّفُوسِ، ويَصعَدُ بالهِمَمِ إلى القِمَمِ، وأَتَسَاءَلُ: هل اخْتَارَ ياسين بيتاً للشَّابِّي تَحدِيدَاً، لِأَنَّهُ تُوُفِيَ عن خمسةٍ وعشرين ربيعاً، كَعُمرِ جميل الحجيلان، حينذاك؟!

وضِمنَ تهيئة المترجم جميل، لمُهِمةِ الغَدِ المُهِمة، قال الشيخ يوسف يَاسين: إِنَّ من عَادَة المَلِك عبد العزيز، أَنَّهُ إذا أَخَذَتهُ الحَماسَةُ في الحَدِيثِ، استَشْهَدَ بِقَولٍ أَثِيْرٍ عليه، وقد اتَخَذَهُ مِنهَاجَاً له وطَريقَةً، وهُو: «الَحَزم أبو الَعزم أبو الظفرَات، والتَرْك أبو الفَرك أبو الحَسَرَات».

وشرَحَ الشيخ يوسف ياسين المقولة؛ فمن كان حازماً في أمُوره، عازِماً على تنفيذ ما تقتضيه المصلحة، كسب النتيجة ظَفَراً وفَوزاً، ومن تَسَاهَلَ أو تَكَاسَلَ، وتَرَكَ ما يجب عليه فعله، جَنَى الخسارة، فَرَاحَ يَفْرُكُ يَدَيهِ نَدَمَاً، وتَقَلَّبَ في الحَسَرَاتِ المُؤذِيَاتِ. وأَكَدَ المستشار على ضرورة أن يُتَرجِمَ جميل العِبَارَةَ كاملةً، بتفصيلِ معانيها، دون إخلال أو اختزال.

لا شَكَ أنَّ الأَرَقَ كَان شَرِيكَ جميل الحجيلان تلك الليلة، وليس السَهَر، فالأرَقُ: ما استَدعَاكَ، والسَهَرُ: هو مَا اسَتَدعَيتَهُ، وَهُو تَفريقٌ ذكيٌ، ذَكَرَهُ الكَفَوِيُّ، في (الكُلِّيّات).

الذينَ عرَفُوا جميل، في أي مرحلة من عمره المهني، كما يُقِرُون بدَمَاثَةِ أَخلاقِهِ، يُؤكدون ِصَرَامَتَهُ، وجِدِيتَهُ، وَحَدَبَهُ على وَاجِبَاتِهِ، وَهوَ ما تَعَلمَهُ مِن حَيَاةِ أسلافِهِ، العقيلات، ومما وَاجَهَ من صِعَابِ في مستهلِ حياته، وما اضطَلَعَ بهِ مِن مَسؤُولياتِ، ثقيلَةَ الأحمَالِ، لَكِّنها عَرَكَتهُ، وصَاغَتهُ في عِدادِ الرِجَال.

عَلى أَنَّ لِي عَزمَاً إِذا رُمتُ مَطلَبَاً

رَأَيتُ السَمَا أَدنَى إِلَيَّ مِنَ الأَرضِ

قَضى جميل لَيْلَتَهُ تلك، يُحَضِّرُ للتَرجَمَةِ، فاستوعَبَ المَثَلَ المذكور، وَحَبَّرَهُ، وبَذَلَ الوسْعَ في إِحَاطَةِ مَعَانِيهِ باللغة الفرنسية، كما جَهَّزَ مَا يَتَوَقَّع أن يشمل اللقاء، من موضوعاتٍ.

صَنَعَ جميل بِصَبرٍ عَادَاته الصارِمَةَ في الصِبا، فَقَطَفَ بسهولة جَنَاها باقي العُمْرِ.

نَصَحْتُكَ لا تَأْلَفْ سِوَى العَادَةَ التِي

يَسُرُّكَ مِنهَا مَنْشَأٌ ومَصِيْرُ

فَلَمْ أَرَ كَالعَادَاتِ شَيْئَاً بِنَاؤُهُ

يَسِيْرٌ وأَمَّا هَدْمُهُ فَعَسِيْرُ

في اليوم المرتقب، أشغَلتْ مهابةُ الملك عبد العزيز، المترجمَ الحجيلان عن أن يَفطنَ لأيِّ شَيءٍ سوى الملك العظيم، الذي يَراه لِلمرة الأولى. إنَّهُ قَدَرٌ أَنعَشَ اللهُ بِهِ عَاثِرَ الليالي والأيام، وأحيا به ما أوشكَ على الموت من الآمال. إنَّها الأقدار التي تجفلُ منها، فَيُحيلها اللهُ مَحضَ خَيرٍ.

ويجلس المترجم الذي يَعِي أَنَّهُ أَمَامَ لحظَةٍ تَاريخية بالنسبة له، لَكِّنَهُ يَجِبُ ألا يُفرِط في الإِبحارِ خَلفَ هذا الهَاجِس، فَيَنشَغِلُ بِهِ عَن الغَايَةِ العُليا، وهي القيامُ بالتكليف - التشريف، على أَفضَلِ ما يُمكِنُ، أداءً لواجِبِ وطَنِك، وزَعِيمك عليك. يَعدّ الحجيلان ما سَمِعَهُ، مُباشرة من مليكه الكبير، كانَ أول درسٍ يتلقاه في سياسة بلاده الداخلية والخارجية، وأنعِم وأَكرِم بمُعَلِّمٍ في منزلةٍ لا تُدرَكُ. ولم يُفَوِّت عاهل الجزيرة المناسبة، لينقل ما كانَ الأشقاءُ في الجزائر يرزحون تحتَه من احتلال فرنسا واستبدادها، وطالبَها برفع يدِها عن الشعوب التي تستعمرها، قبل أن ينفجرَ الشعبُ ثورة على الظلم. وأخذته الحماسة والحميّة، فأورد مثله الأثير، مبدياً حرصَه على أن يحسنَ المترجم نقلَ معناه ومبناه، فانبرى المترجمُ الشاب، لنقل تفاصيلِ المثل، باسطاً معناه بما يتواكب مع اللغة الفرنسية، بكل هدوءٍ ورويَّةٍ وتمكّن، وهو ما تنبَّه له الملك عبد العزيز، لكنَّه تأكيداً، سَأَلَ الحجيلان: ترجمتَ يا ولدِي؟! فأجاب: نعم، طال عُمرك.

حَرِصَ المُتَرجِمُ على أن يُخفيَ السعادةَ الغامرةَ في نفسه، إذ كانت أساريرُه ترقُص فرحاً، بما لَمسَهُ من رِضَا الملك على تَرجَمَةِ مَثَلِهِ الأَثِيْر، بِبَسْطٍ، واستِفَاضَةٍ.

انتهى اللقاء، وأُكمِلَت المَهَمَّة، ونَقَشَت أحداث اليوم نفسَها في ذاكِرة الحجيلان، الذي بنَى عليها حَجَرَ أَسَاسِ مَسِيرَةٍ مِهَنِيَّةٍ زَاهِرَةٍ.

منذُ ذلك الحدثِ المفصلي، يمكنُنَا أن نردّدَ مع أبي تمام عن السيرة الجميلة في بداياتها، قوله:

إِنَّ الهِلالَ إِذا رَأَيتَ نُمُوَّهُ

أَيقَنْتَ أَنْ سَيَصِيرُ بَدرَاً كَامِلَا

arabstoday

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 06:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 06:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 06:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 06:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 06:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 06:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدَرسُ الأول المُعلم مَلِكٌ والتلميذُ جميل الدَرسُ الأول المُعلم مَلِكٌ والتلميذُ جميل



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر

GMT 10:21 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل اعتقلت 770 طفلاً فلسطينيًا في الضفة منذ 7 أكتوبر

GMT 12:02 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

قصف إسرائيلي يقتل 8 فلسطينيين في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة

GMT 08:39 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل السراويل الرائجة هذا الموسم مع الحجاب

GMT 16:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 17:12 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab