هِمَّتِي هِمّة الملوك

هِمَّتِي هِمّة الملوك!

هِمَّتِي هِمّة الملوك!

 العرب اليوم -

هِمَّتِي هِمّة الملوك

بقلم - تركي الدخيل

لا يسأم العبد الفقير إلى الله، من إخبار القاصي والداني، عن ولعِه بأبي الطيّب المتنبي، وعدتُ مرة بعد مرة، إلى ديوانه العُجاب، مُنكَبّاً على تأمل أبياته، ليظهر له في عيونها، من حقائق الحياة، وسُنَن الكون، وطباع الناس، ما لا ينقطع منه عجب! وما طالعت من بعد أبي الطيب ديواناً، إلا وجدت في انبساطه عرجاً، وفي أنفه ميلاً، وفي عينه حولاً، وفي قوله زللاً، وفي رأيه غبناً. كنتُ أجالس أبا الطيب، فأنصِتُ إلى عذب فَخرِه: أريد من الأيام ما لا يريدُه سوايَ ولا يُجري بخاطره فكرَا وأسألها ما أستحقُّ قضاءَه وما أنا ممن رامَ حاجتَه قسرَا أخو هِمم، رحالة، لا تزال بي نوى تقطع البيداءَ أو أقطعَ العمرَا

ومن كان عزمِي بين جنبيه حثه وخُيِّل طول الأرض في عينه شبرَا يرى المتنبي، أيها الكرام، أنَّ المقاييس تختلف باختلاف الهِمم، فالكبير، يبدو صغيراً في نظر صاحب الهِمّة العالية، والصغير، يبدو ضخماً عِند من ساقط الهِمَّة: على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ وتكبرُ في عين الصغير صغارُها وتصغر في عين العظيمِ العظائمُ قد يستغرب بعضٌ أنَّ الهِمّة مشتقَّة من الهَم، فقد عرَّفها أبو هلال العسكري، بأنَّها: «اتساع الهم وبُعد موقعه، ولهذا يُمدح بها الإنسان، فيقال: فلان ذو همة وذو عزيمة، وأما قولهم: فلان بعيد الهمة وكبير العزيمة، فلأنَّ بعض الهِمم يكون أبعد من بعض وأكبر من بعض، وحقيقة ذلك أنَّه يهتم بالأمور الكبار». نازعتني نفسي، أنْ أتأملَ حديث الشعراء، عن الهِمّة، فمن ذلك بيتُ، بكر بن النطاح (ت 192 هـ)، مادحاً: لَهَ هِممٌ لا مُنتَهَى لِكِبَارِهَا وهِمَتُهُ الصُغرى أَجَلُّ مِن الدَهر ومن رائقِ شِعرِ الإمام الشافعي (ت 204 هـ): أنا إنْ عشتُ لستُ أعدمُ قوتاً وإذا متُّ لستُ أعدمُ قبرَا همتي هِمّةُ الملوكِ ونفسي نفسُ حُرٍ ترى المذلة كفرَا

وأنقل «بتصرفٍ»، وصف إبراهيم اليازجي (ت 1324هـ)، عالي الهِمّة: «ماضي العزيمة، نافذ العزم، ذو شكيمة وباع، طلَّاع ثنايا، وحَمَّالُ أعباء، ذو صريمة محكمة، وهِمّة شمَّاء، قصية المرمى، رفيعة المناط. دَرَّاك غايات، سبوقٌ إلى الغايات، مِقدَامٌ على العظائم، (يقصد خطيرات الأمور)، ويركب المراقي الصعبة، ويضطلع بأعباء المهمات، يُذَلِّلُ العقاب، ويُروّض الصعاب، ويركب ظهور العوائق، ويتخطَّى رقاب الموانع، لا يتعاظمه أمر، ولا يقف دون غاية، ولا يَفُوتُهُ مَطلَب». الهِمّة، إذن، قوة محرِّضة على السمو، فاعتبرها المتنبي، من أهم صفات ممدوحيه، يقول: تجمعتْ في فؤادِه هِمم مِلءُ فؤاد الزمان إحداها هذه القوة الدافعة، ترتفع بصاحبها إلى أعلى المراتب، وفقاً لشاعر الأحساء، ابن المقرب العيوني (ت 630 هـ): أرَى همَّتي لا تقتضيني سوى العُلى وليس العُلى دون النجوم الثواقبِ بيد أنَّ السعي للمعالي، مورثٌ للتعب، موهنٌ للجسد، مُرهِقٌ للقلب، مُستوجب مضاعفة الجهد، وهو ما التقطه الطغرائي (ت 513 هـ): أرى شغفي بطِلَاب العُلى يُعَرِّضُنِي للأمور العظامِ فأطمع في كل صعبِ القيادِ وأطلب كلَّ منيع المرامِ إذا ما تقاعدني ثروتي تناهض بي همَّتي واعتزامي

وتظهر الهِمم، في صور مختلفة، فيُحَدِّثنا أبو فراس الحمداني (ت 357 هـ)، عن هِمّة تدفعه إلى طلب العز، وإن بَعُدَ مكانه: إذا ما العِزُّ أصبحَ في مكانٍ سَمَوتُ له وإن بَعُدَ المزارُ وهكذا، تخلق الهِمّة الساقطة، حجاباً حاجزاً، يحول بين الإنسان ورؤية الممكن، فتتقلص دائرة المتاح، وتتسع دائرة المستحيل، ويذبل ميل الإنسان إلى التحدي والمغامرة، حتى يموت؛ لذلك يقول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «لا تُصغِرَنَّ همتَك، فإني لم أرَ أقعد بالرجل من سقوط همته». وما زالت الهِمّة، ترافق الشعراء، من جيل إلى جيل، حتى نظر مصطفى صادق الرافعي (ت 1937)، إلى الهِمّة نظرة فلسفية، أوجزها ببيت واحد، وما أعجب الشعرَ حين يختزل المعاني الكبيرة، في كلمات قصيرة!: إذا كان قلبي لا يُصاحبُ هِمَتِي فما هْوَ لِي قَلبٌ، ولا أنا صاحبُه! فالهِمّة العالية، أرقى من أن يصلَها من استسلم للهوى، وارتهن للدعة، وأدمنَ الكسل.

نقل ابن حمدون، في تذكرته، عن بعض الحكماء، قولهم: ذو الهِمّة وإن حَطَّ نفسه، تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. وقيل: أسوأ الناس من اتسعت معرفتُه وضاقت مقدرتُه وبعدت هِمَّتُهُ، أخذ ذلك المتنبي، فقال: وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وجدُهُ وللهِمّة أنفة، ولأبي الغمر الطبري (ت 230 هـ): وهِمّة نَبُلَت عن أن يُقال لها: كأنها، وتَعَالت عن مَدَى الهِمم ومع أنَّ عصرَنا تزدحم به الملهيات، فتُشغِل عن طلب المهمات، إلا أنَّ فيه من وسائل التعلم، وأدوات التطور، ما يُشبع أصحاب الهِمم العلية، مما لم يتوفر في زمن آخر، و«من جَدَّ وجد»؛ و«المرء تابع لهمته»، كما تقول العرب ولا يرتفع بالمرء مثل هِمّة عالية، يخوض بها غِمار التحديات، وتتجاوز به الصعاب والملمَّات، فتضعه بين الكبار، وترتقي به، حتى يقبض بين راحتيه سعادة المنجزات، وينال أعالي المرتبات.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هِمَّتِي هِمّة الملوك هِمَّتِي هِمّة الملوك



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:48 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
 العرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 09:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس سان جيرمان
 العرب اليوم - غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس سان جيرمان

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
 العرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:28 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

منة شلبي توجّه رسالة شكر لجمهور السعودية بعد نجاح مسرحيتها
 العرب اليوم - منة شلبي توجّه رسالة شكر لجمهور السعودية بعد نجاح مسرحيتها

GMT 05:57 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

المحنة السورية!

GMT 07:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 19:01 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

6 قتلى في قصف للدعم السريع على مخيم للنازحين في شمال دارفور

GMT 22:51 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الإسرائيلي يأمر بإخلاء شمال خان يونس "فوراً" قبل قصفه

GMT 20:03 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

القبض على موظف في الكونغرس يحمل حقيبة ذخائر وطلقات

GMT 20:27 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

دعوى قضائية على شركة أبل بسبب التجسس على الموظفين

GMT 22:06 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

إيقاف واتساب في بعض هواتف آيفون القديمة بدايةً من مايو 2025

GMT 08:16 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

وفاة أسطورة التنس الأسترالي فريزر عن 91 عاما

GMT 18:35 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

العراق ينفي عبور أي فصيل عسكري إلى سوريا

GMT 18:29 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب الله

GMT 17:20 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

هنا الزاهد توجه رسالة مؤثرة إلى لبلبة

GMT 18:45 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ولي العهد السعودي يستقبل الرئيس الفرنسي في الرياض

GMT 11:32 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الاحتلال ينسف مبانى بحى الجنينة شرقى رفح الفلسطينية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab