سجالٌ مع أبي الطيب عن المتنبي

سجالٌ مع أبي الطيب... عن المتنبي!

سجالٌ مع أبي الطيب... عن المتنبي!

 العرب اليوم -

سجالٌ مع أبي الطيب عن المتنبي

بقلم - تركي الدخيل

من جميل أبيات شاعرِ العربِ الأكبر أبِي الطيبِ المتنبي، قولُه:

ذو العَقلِ يَشقَى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ

والمعنَى: أنَّ العاقل يشقَى بنعيم عقلِه، فهو في تفكيرٍ دائمٍ، وقلقٍ متواصل، في سبيل تحقيق أهدافه ومراميه، ووصول ما يتوقُ إليه من المراتبِ العالية، والدرجات السامية.
أبو العلاء المعرّي، قال شارحاً: «العاقلُ وإن كانَ في النعيم، فإنَّه لا يهنأ به؛ لعلمِه بزوالِه، والجاهلُ وإن كانَ في الشقاوة، فهو يتلذَّذُ؛ لجهلِه بعواقبِه».
ويظنُّ العبدُ الفقيرُ لربه، أنَّ في الشعرِ العاميِّ السعوديِّ، ما يشبهُ هذا المعنى، شبهاً قد يصلُ حدَّ التطابق. يقول الأميرُ الشاعرُ، محمد الأحمد السديري (1915-1979):

 

المستريح اللي من العقل خالي
ما هو بلجّات الهواجيس غطّاس
والمراد أنَّ من لا يشغله ذهنُه بالتفكير يعيشُ مرتاحاً، مقارنةً بمن يغطسُ في لُجج بحارِ الأفكار المتلاطمة! ولجّات: جمع لجَّة، وهي الإزعاج حسياً أو معنوياً. والهواجيس: جمعُ هاجس، ويُنطقُ بالعامية: هاجوس، وهو الفكرة التي تجتاح الذهنَ ذهاباً ومجيئاً. والمقصد: أنَّ عجزَ البيتِ يريد عكس صدرهِ شرحاً.
قال العكبري: ومنه قولهم: ما سُرَّ عاقل قط! لأنَّه يتفكر في عواقبِ أمرِه ويتخوّفها. ومن كلامِ الحكيم: العاقل لا يُساكن شهوة الطبع، لعلمه بزوالها، والجاهل يَظُنُّ أنَّها خالدةٌ، وهو باقٍ عليها، فهذَا يشقَى بعملِه، وهذا ينعمُ بجهلِه. وما أحسنَ قولَ مسلم:

   

 

 

من راقبَ الناسَ ماتَ غمّاً
وفازَ بالَّلذةِ الجسورُ
وقال البحتري:
أرى الحلمَ بؤساً في المعيشةِ للفتى
ولا عيشَ إِلاّ ما حبَاكَ به الجهلُ
ولابن المعتز:
وحلاوةُ الدنيا لجاهِلِهَا ومرارةُ الدُنيا لِمَن عَقَلَا

 

واستحسنَ الواحديُّ، قولَ ابنِ ميكال:
العقلُ عن دركِ المطالبِ عقلةٌ
عجباً لأمرِ العاقلِ المعقولِ
وأخو الدرايةِ والنباهةِ متعبٌ
والعيشُ عيشُ الجاهلِ المجهولِ
واستشهدَ بقولِ المتقدمين: ثمرةُ الدنيا السرور، وما سُرَّ عاقل. ثم شرح: قد يراد؛ بتفكره في العواقب وتخوفِه إياها.
ونقلَ محمد توفيق البكري الصديقي، عن أرسطاطليس، قوله: «العاقلُ لا يساكنُ شهوةَ الطبع، لعلمِه بزوالِها، والجاهلُ يظنُّ أنَّها خالدةٌ له، وهو باقٍ عليها، فهذا يشقَى بعقله، وهذا ينعمُ بجهلِه».
ولأبي نصرٍ بنِ نباتة:
مَنْ لِي بعيشِ الأغبياءِ فإنَّه
لا عيشَ إلا عيشُ من لمْ يعلمِ
وفي البابِ نفسِه، بيت شعرٌ للشاعرِ الشعبيِّ السعوديِّ الراحل، بندر بن سرور العتيبي، يقول فيه:
أحــد(ن) يـنـام وحَـــط راســـه بـكُـمـه

 

واحـد(ن) تخـم النـوم عينـه وتخطـيـه
وهو يشرحُ حالةَ القلقِ التي تعترِي من تخالجُه الأفكارُ والهموم، مع ضده، فالأخيرُ يغطُّ في النومِ بمجردِ أن يتوسَّدَ يدَه، وكأنَّه أدخلَ رأسَه في كمِ ثوبه، فيما ضِدُه، يَمُرُّ به النومُ، فلا يصيبُ منه شيئاً، بل يخطئ طريقه، لكثرة همومِه وأفكارِه.
وفي الوقت الذي يؤكّدُ الشعراءُ في أبيات عديدة مرَّ معنا كثيرُ منها، أنَّ الخاليَ من الهموم، وهو من يعبرون عنه بالجاهلِ، أو بغير ذي الهمة، أكثرُ راحةً وأقلُ عناءً، ممَّن أضناهُ التفكير، وتكالبتْ عليه الهمومُ، إلا أنَّ الشعراء ذاتهم في الغالب، يكتبونَ عن عكسِ هذا المعنى، فيستكثرونَ من العاقل، أن يهبطَ بعزيمتِه لمرحلةِ التخلي عن الهموم.
يقولُ المتنبي:
تَصفو الحَياةُ لِجاهِلٍ أَو غافِلٍ
عَمَّا مَضَى فيها وَما يُتَوَقَّعُ
وأجملْ ببيتِ الطغرائِي، في لاميةِ العجَم:
قد رشَّحوكَ لأمرٍ إنْ فطنتَ له ...
فاربأ بنفسِك أنْ ترعَى مع الهمَلِ
الفطنة: الفهمُ، والهَمَلُ بالتحريك: الإبل بلا راعٍ.
قال الجوهري: (مع) كلمة تدل على المصاحبة.
للمتنبي:
أخالطُ نفسَ المرءِ من قبلِ جسمِه ...
وأعرفُها من فعلِه والتكلُّمِ
ولأبي الطيب أيضاً، في معنَى شبه معاكس:
وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ
وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وُجدُهُ
ولعلَّ المتنبي من أجل ذلك، قال:
فإنْ يَكُ إنسانٌ مضَى لسبيلِه
فإنَّ المنايَا غايةُ الحيوانِ
والمراد بالحيوان، الاشتقاق من الحياة.
ولله ما أبدعَ قولَه!:
على قدرِ أهلِ العزمِ تأتِي العزائمُ
وتأتِي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
فمن الناسِ من لا يقبلُ بغيرِ الرفعةِ والعُلو، ومنهم من أخلَدَ إلى الأرض، ولذا يقولُ:
وفي الناسِ من يَرضى بميسورِ عَيشِهِ
ومركوبُه رِجلاه والنَعلُ جِلدُهُ
لقد علّمَتْهُ التجاربُ، فأبصرَ، وقال:
فإنّي رأيتُ الضُّرّ أحسَنَ مَنظراً
وأهْوَنَ مِنْ مَرْأى صَغيرٍ بهِ كِبْرُ
ولبلوغ هذه المنزلة، يجبُ أنْ تلازمَك نحوَها، رغبةٌ عارمةٌ، وعزيمةٌ واعيةٌ، يقول أبو الطيب:
كلُ حِلمٍ أتَى بغيرِ اقتدارٍ
حُجَةٌ لاجِئٌ إليها اللئامُ
هل يمارس الشاعر، حالةً من حالاتِ التناقضِ هنا، فيضعف أمامَ مصاعبِ الحياة، وعثراتِ الطريق، معترفاً بأنَّ عدمَ الاكتراث أسهل، وربَّما أجدَى، من تبني الأفكارِ والقضايا، وحملِ الهموم، ومعاقرةِ القلق الذي يعشعشُ في نفس صاحبِ العزيمة، ملازماً له، مُحَرّضاً على عدم التراجع عن المسير، وإن كانَ الطريقُ طويلاً وشاقاً؟
أم هي لحظةٌ من لحظاتِ الكشوفات، التي يستمتعُ بممارستِها الشاعر، ليبيّن لك الشيءَ ونقيضَه، والفكرةَ وضدها، رُبَّما فتحاً لباب التعددية على مصراعيه، وربَّما هي حالةُ انشراحٍ وحالةُ انقباضٍ تجتاحُ الإنسانَ في موضوع واحد، فيدافعُ عن ما ينشرح له اليوم، ويهاجمُ، أو يترفَّعُ عن الخوض معه حين تكون اللحظة ملكاً للانقباض؟!

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سجالٌ مع أبي الطيب عن المتنبي سجالٌ مع أبي الطيب عن المتنبي



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:48 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
 العرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 10:44 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الخليفي يحسم موقف باريس سان جرمان من ضم نجم ليفربول صلاح
 العرب اليوم - الخليفي يحسم موقف باريس سان جرمان من ضم نجم ليفربول صلاح

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
 العرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 14:49 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إياد نصار يُشوق متابعيه لفيلمه الجديد ويُعلِّق
 العرب اليوم - إياد نصار يُشوق متابعيه لفيلمه الجديد ويُعلِّق

GMT 08:36 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها

GMT 10:02 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نقل عدوى لبنان إلى العراق

GMT 06:33 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ثلاث دوائر

GMT 08:28 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

منة شلبي توجّه رسالة شكر لجمهور السعودية بعد نجاح مسرحيتها

GMT 06:46 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

العلاقات التركية السورية تاريخ معقد

GMT 07:12 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ماذا وراء موقف واشنطن في حلب؟

GMT 07:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 23:47 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

فيفا يعين الأميركية جيل إليس رئيس تنفيذى لكرة القدم

GMT 01:25 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

وفاة 143 شخصًا بمرض غامض في الكونغو خلال أسبوعين

GMT 10:21 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

"أرامكو" السعودية توقع اتفاقية مع شركتين لاستخلاص الكربون

GMT 17:28 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

وحدات الجيش السوري تسقط عشرات الطائرات المسيرة في ريف حماة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab