بقلم - سمير عطا الله
عاش العالم في الزمن الورقي آلاف السنين، لا نعرف تعدادها بدقّة، إبان السنوات أو القرون الأولى. إن اكتشاف الصينيين للورق كان محاطاً بسرّية كاملة، كما كان مقتصراً على رجال الدين البوذيين. غير أن وصول الورق إلى أيدي العرب نقلهُ من صناعة سرّية إلى إحدى أهم الصناعات الحضارية في التاريخ.
كان ذلك في السنوات الأولى من عهد هارون الرشيد، يوم بغداد في عزّ ازدهارها العالميّ. تسرب السر إلى العرب بعد معركة طلاس «كازاخستان اليوم» عام 751. انتصر العرب في تلك المنازلة واستسلم عددٌ كبيرٌ من الصينيين الذين تحولوا إلى فنيين وخبراء في هذه الصناعة. انصرف العرب إلى تطوير هذا الفن الجديد. وبينما كان الصينيون يستخرجون الورق من شجر التوت الذي لم ينجح نموّه في العالم العربي، عثر العرب على مصادر أخرى في الأقمشة وغيرها.
تركزت هذه الصناعة في البداية في مدينة سمرقند «أوزبكستان اليوم» وازدهرت على طول طريق الحرير، لكنّ الرشيد سرعان ما نقل هذه الحركة الهائلة إلى بغداد نفسها.
وفيها أقام أول مكتبة عربية. ولم يكن ولدهُ وخليفتهُ أقل شغفاً منهُ. فأخذ يُنشئ بيوت الحكمة ومراكز المعرفة ومعاهد العلوم.
وما لبث الورق أن عرفَ عزّهُ الأكبر عندما تقرَّرَ أن تُطبع عليه نسخ من القرآن الكريم. وبسبب ذلك ظهر فنٌّ جديد هو فن الخطوط متعددة الأشكال، التي أتقنها العرب في منافسة اللوحات والرسوم عند الغرب والهنود، وكان إنتاجها أقل تكلفة بكثير من الوسائل الأخرى كالجلد وورق البردي.
تسارعت الحَضارات في التلاقح، وكثرت الترجمات، وظهرت التحف الأدبية مثل «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة». وعندما نشرت إحدى صحف باريس «ألف ليلة وليلة» على حلقات، كان المتظاهرون يهاجمون مطبعة الصحيفة من أجل الحصول على الفصل التالي قبل نزوله إلى الأسواق.
بسبب هذه الورقة الخفيفة شاعَ العلمُ في كل مكان، وتكدست الآداب، وانكسرت العلوم، وعمّت الجامعات في أنحاء الأرض.
أفضى الورق إلى الكتاب، وأفضى الكتابُ إلى المعرفة، وأفضت المعرفة إلى التطور البشري. وهو تطورٌ لم يتوقف لحظة واحدة. ظلَّ يتقدم على نحوٍ خيالي حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. لا ضرورة بعد الآن للورق ولا للحبر.
شيءٌ من السحر حلّ محل «الرّزَم» الضخمة، والمعروف أن كلمة «رِزَم» العربية تُستخدم بالفرنسية والإنجليزية. غداً يكتبُ الناس عن الورق كما نكتب الآن عن العصر الحجريّ. الخاسرون هم الذين يفوتهم القطار.