المبادرة الخاصة ثقافة وتربية أيضاً

المبادرة الخاصة... ثقافة وتربية أيضاً

المبادرة الخاصة... ثقافة وتربية أيضاً

 العرب اليوم -

المبادرة الخاصة ثقافة وتربية أيضاً

بقلم - إنعام كجه جي

لا شك في أن دور الدولة في الاستثمار والاقتصاد والتنمية يشهد تراجعاً لصالح المبادرة الخاصة وذلك من عقود طويلة في العالم الغربي الذي ظهرت فيه الرأسمالية والليبرالية.
وبطبيعة الحال فإن العالم بأسره ينحو نحو القطاع الخاص وتشجيع المبادرات الخاصة، حتى تلك الدول المعروفة بخياراتها الاشتراكية ورفضها الراديكالي تاريخياً للرأسمالية.
فللواقع قوانينه.
في السياق نفسه نشير إلى أن جائحة «كورونا» جعلتنا ننتبه إلى أن التعويل على القطاع الخاص والمضيّ نحو الخوصصة والمزيد منها يجب ألا يلغيا دور الدولة في القطاعات الحساسة، باعتبار أن وظيفة الدولة حماية المواطنين من الأزمات وتعليمهم ورعاية صحتهم، ومن الخطأ الفادح تسليم القطاعات المصيرية مثل التعليم والصحة بالكامل للقطاع الخاص المعنيّ بالدرجة الأولى والأساسيّة بالربح.
ومهما تكن التعديلات في التصورات فإن المؤكد هو أن الرّهان على ثقافة المبادرة الخاصة هو الحل الأكثر منطقية وجدوى للتخفيف من أعباء الدولة ولتنمية الاقتصاديات.
نحن، المجتمعات العربية، لم ننخرط كما يجب في الحداثة فكراً وقيماً، وتحتاج الاقتصاديات التي تعتزم الاعتماد على المبادرة الخاصة المعبَّر عنها بالقطاع الخاص إلى نظرة مختلفة للفرد وللحرية ولوظيفة المؤسسات الاجتماعية الكبرى. بل إننا نحتاج إلى وضع مبادئ جديدة لتربية الأجيال الصاعدة التي ستكون رأس المال البشري للتنمية القائمة بشكل كبير على المبادرة الخاصة.
سأوضح الفكرة أكثر: نحن المجتمعات العربية لا نربّي أطفالنا على قيم الاعتماد على الذات والاستقلالية والمغامرة والتجربة. الأمهات العربيات يرافقن أطفالهن في أدق التفاصيل ويحيطنهم بالخوف المبالغ فيه. في التربية العربية للعائلات الثرية نلاحظ مغالاة في الدلال وفي تلبية كل شيء بلا حدود وبعيداً عن كلمة «لا» وتقديم كل الطلبات على طبق من ذهب. وهكذا يتعود الطفل على أن كل شيء جاهز له وأن رغباته لا تُردّ. وبشكل عام حتى الطبقات المتوسطة لا تترك للطفل فرصة الاختيار والخطأ والتجربة وتتم ممارسة نوع من الإحاطة التي تطمس القدرة على التعويل على الذات.

هناك تربية غائبة حول التعويل على الذات والاستقلالية من دون انتباه وبذل جهد لتجسيدها إلا القليل من أولياء الأمور والعائلات. وهنا يبدأ مشكل بنيوي عميق في إرساء الاقتصاد القائم على الليبرالية. فالمجتمع الذي لا يربي أطفاله على الاستقلالية وحبّ الاستكشاف والتعويل على الذات، يجد صعوبة في إرساء دعائم قوية وفي جني ثمار الخوصصة واقتصاد المبادرة الخاصة. وتأكيداً لهذه الملاحظة المقلقة حقاً فإن غالبية المتخرجين في الجامعات في البلدان العربية لا حلم لهم سوى الالتحاق بالوظيفة العمومية ولديهم خوف بنيوي من المشاريع والتعويل الاقتصادي على الذات. وهو خوف مفهوم وطبيعي لأن شاب اليوم تربى وهو طفل على الخوف من التجربة وأن يظل دائماً ضمن أطر مختلفة من الأبوة: الأب في البيت والأب في العمل والدولة الأب...
لذلك وأمام حقيقة أن مجتمعاتنا محتاجة إلى قطاع خاص قوي تماماً كحاجتها للوظيفة الاجتماعية للدولة بهدف مقاومة البطالة وضخ التنمية بدماء جديدة أفكاراً وروحاً فإن بلوغ الهدف الضروري وتلبية هذه الحاجة الملحة تتطلب منّا تغيير نمط التربية المعتمد والانتباه لذلك.
فمن الضروري اليوم تغيير النظرة إلى الطفل. فهو ليس مِلكاً نتصرف فيه ونشحنه بخوفنا وتجاربنا ورعايتنا الزائدة المفسدة لقدراته. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يتطلب من الأولياء أيضاً مراجعة تصورهم للأبوة والأمومة. هناك تجارب دولية في هذا الخصوص تسمى التربية الوالدية، وهي برامج تهدف إلى تمكين الأولياء من خبرة التعامل مع الأبناء، مع العلم أنه برنامج يتفرع إلى برامج عدة، ومحوره الأساسي التربية الوالدية الإيجابية.
طبعاً التفكير السليم يقوم على الاهتمام بالطفل وعدم الإهمال وعدم المساس بحقوقه، ولكنّ هذا لا يعني البتة إفساد قدرات الطفل الأساسية وتمكينه من الاستقلالية في إعداد دروسه وفي أن يكون له دور في ترتيب البيت، وهي تفاصيل تخفف من عبء الأبوة والأمومة المرهقة من جهة وتنمّي قدرة الطفل على نحت كيانه وبناء خبرة خاصة به من جهة أخرى. فظاهرة الدروس الخصوصية والمرافقة الكاملة للأطفال في الدراسة تحوّله إلى كائن ناقص يحتاج دائماً إلى الدعم، وهكذا يُحرم من لذة التعب الذاتي والتعويل على النفس خصوصاً قياس قدراته ومعرفة ملكاته بشكل لا زيادة فيه.
لا بد من تشجيع المبادرة الخاصة في الاقتصاديات العربية اليوم.
لا بد من تحرير الاقتصاد وتوفير جميع التشريعات المساعدة على خلق المشاريع وخلق الثروة.
لا بد من الانخراط في الاقتصاد العالمي عن طريق شباب فاعل في التنمية ومحرك للتصدير وجالب للعملة الصعبة.
لا بد من إزاحة العراقيل كافة أمام المبادرات الخاصة في الفلاحة والصناعة والتجارة...
ولكن إذا أردنا تحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد والمال، فلا بد أيضاً من تربية الأطفال على التعويل على الذات وعلى الاستقلالية وعلى الفشل وعلى الخيبة وعلى الخسارة... وهكذا فقط تربح الأجيال القادمة.

arabstoday

GMT 19:01 2024 الثلاثاء ,18 حزيران / يونيو

سقطات النجوم “بتوع البيبسي”!

GMT 03:29 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

اعترافات ومراجعات (59) من أحمد حسنين إلى أسامة الباز

GMT 03:27 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

مشروع إنقاذ «بايدن»!

GMT 03:23 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

ما تحمله الجائزة

GMT 03:20 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

من هو (موسيقار الأجيال الحقيقي)؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المبادرة الخاصة ثقافة وتربية أيضاً المبادرة الخاصة ثقافة وتربية أيضاً



 العرب اليوم - ارتفاع عدد شهداء الصحفيين في غزة لـ152 منذ 7 أكتوبر

GMT 12:12 2024 الخميس ,20 حزيران / يونيو

أفضل الأماكن المرشحة لتعليق ساعة الحائط
 العرب اليوم - أفضل الأماكن المرشحة لتعليق ساعة الحائط

GMT 13:20 2024 الخميس ,20 حزيران / يونيو

التأخر في النوم يهدّد الأطفال بمرض الضغط
 العرب اليوم - التأخر في النوم يهدّد الأطفال بمرض الضغط

GMT 18:56 2024 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

محمد رمضان يُعلن غيابه رسميًا عن موسم رمضان 2025
 العرب اليوم - محمد رمضان يُعلن غيابه رسميًا عن موسم رمضان 2025

GMT 13:20 2024 الخميس ,20 حزيران / يونيو

التأخر في النوم يهدّد الأطفال بمرض الضغط

GMT 21:09 2024 الخميس ,20 حزيران / يونيو

قصف إسرائيلي على منزل في غزة يوقع 8 قتلى

GMT 20:53 2024 الخميس ,20 حزيران / يونيو

وفاة الممثل دونالد ساذرلاند عن عمر ناهز 88 عامًا

GMT 03:01 2024 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

إعصار تاريخي مفاجئ يضرب موسكو ويخلف قتيلين

GMT 00:01 2024 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

فرنسا: نحو عام من الضباب؟
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab