رغم أن أطراف الواقعة الثلاثة تجاوزوها ومروا فوقها، فإنها لمن يتأمل تفاصيلها الدقيقة تظل موحية بكثير من المعاني التي قد لا تبدو لنا عند الوهلة الأولى.
أما الأطراف الثلاثة فهم: أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة في دمشق. وأنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية الألمانية. وجان نويل بارو، وزير الخارجية الفرنسي. وقد جمعهم لقاء في قصر الشعب في العاصمة السورية، وكان ذلك في اليوم الثالث من هذا الشهر.
لا ضرورة هنا للتوقف أمام التوافد الغربي الأميركي على سوريا في مرحلة ما بعد سقوط نظام حكم بشار الأسد، ليس لأن مثل هذا التوافد الذي تلحظه العين المجردة غير مهم، ولكن لأن ذهاب وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا جزء أصيل منه، ولأن لقاءهما مع الشرع هو الأهم إذا تطلعنا إلى اللقطة التي جمعت الثلاثة في إطار واحد.
وقد انشغل الإعلام ليس بمضمون اللقاء، وإنما بجزئية محددة فيه تتصل بامتناع الشرع عن مصافحة الوزيرة أنالينا.
نجد أنفسنا والحال هكذا أمام منطق لكل طرف من الأطراف الثلاثة في التعامل مع هذه الجزئية، التي وإنْ كانت تمثل الشكل في الموضوع، إلا أنها جزء في الوقت نفسه من المضمون، لأنه ليس من الممكن فصل الشكل عن المضمون في هذا المشهد الذي كان القصر شاهداً عليه، ولا حتى في أي مشهد آخر يتوازى فيه الشكل مع المضمون بحكم طبائع الأشياء.
فأحمد الشرع من جانبه لم يقدم تفسيراً لما حصل، وبدا فيما أقدم عليه من عدم المصافحة، وكأنه سائق سيارة أعطى إشارة يمين، ثم انحرف خارجاً من الطريق من ناحية الشمال. أقول ذلك لأنه منذ دخل دمشق في الثامن من الشهر الماضي، ومنذ أن وقف خطيباً في الجامع الأموي في اليوم نفسه، كان يعطي من الإشارات ما يمنح بعض الطمأنينة على المستوى السياسي وغير السياسي، ولم تكن إشاراته مقلقة، كما هي حال إشارة عدم المصافحة.
إنها إشارة تنطق بأن ما تصورناه عن انقطاع علاقته وعلاقة جماعته أو حكومته بأفكار التشدد تصورات غير دقيقة، وتحتاج منا إلى وقفة ثم إلى مراجعة.
هي إشارة مربكة لكل متابع للشأن السوري في مرحلته الحالية، لأن مثل هذا المتابع لا يتخيل أن يكون البلد الذي أنجب نزار قباني، وسعد الله ونوس، وحيدر حيدر، وحنا مينا، وغيرهم معهم، هو نفسه الذي أنجب رجلاً يمتنع عن مصافحة امرأة.
وأما الوزير الفرنسي فعندما سألوه عما جرى أمامه، قال إنه تمنى لو أن الشرع صافح زميلته الألمانية، ثم أضاف أنه ما حدث لم يكن محوراً في كلامه مع الشرع حين جلسا معاً يتحدثان. وهذا في الحقيقة أمر غريب للغاية، لأن الطبيعي أن يكون امتناع قائد الإدارة الجديدة عن المصافحة من محاور الكلام بينهما، إذا لم يكن هو المحور الأول.
إن عدم المصافحة علامة على توجه لدى قائد الإدارة الجديدة، وهو توجه لا يسر ولا يبعث على الطمأنينة، لأن ما نفترضه ويفترضه العالم الذي يراقب ما تشهده دمشق بعد الأسد، أن تكون سوريا منفتحة على العالم لا منغلقة، وأن تكون على تواصل معه لا على انقطاع، وأن تكون متصالحة مع نفسها لا على خصام مع ذاتها أو مع غيرها. فإذا أخذنا بما يوحي به الامتناع عن المصافحة، فسوف نجد أنه لا يقول بأي شيء من هذا كله، وتلك هي بواعث القلق.
وأما الوزيرة الألمانية فقالت إنها كانت تعلم أن سياق اللقاء لن يوفر مصافحة، وأن المسألة في عدم المصافحة ليست شخصية، ولكنها تتعلق باختلاف في القيم والمفاهيم. وهذا كلام بدوره غريب جداً؛ لأنه يشير إلى أنها كانت تعرف أن الشرع لن يصافح، وأنها قفزت فوق ما تعرفه لأن هدفها هو بالطبع ما يحقق مصالح بلادها، ويفتح طريقها إلى الوجود في سوريا الجديدة، التي يتسابق مسؤولو الغرب والولايات المتحدة لحجز مقاعدهم فيها.
غريب تفكير الوزيرة الألمانية، وغريب تفكير الوزير الفرنسي قبلها، لأن سوريا غير المنفتحة أو غير المتصالحة مع نفسها أو مع سواها، لن توفر مصلحة لأحد في داخلها ولا في خارجها على السواء.
والأغرب موقف الشرع نفسه، لأنه بما أقدم عليه يرسخ مخاوف الذين يتوجسون من توجهاته وتوجهات جماعته منذ البداية، ولأن الذين يضعون أياديهم على قلوبهم منذ أن ظهر في دمشق، يجدون أنفسهم على صواب أو ما يشبه الصواب إلى أن يتبين العكس.