اعتدت فى سنوات مضت، تبدو بعيدة، أن أزور جامعة القاهرة وألتقى طلابها وأساتذتها .. لكننى تأخرت عن هذه الزيارة فى السنوات الماضية، وكان آخر عهدى بها فى عام 2015 .. وفى الأسبوع الماضى، شدنى حنين جارف إلى قاعة المحاضرات الكبرى وهى من أعرق الأماكن فى مصر وأحبها إلى قلبى وعقلى .. تلقيت دعوة من رئيسها الجديد الدكتور محمد سامى عبد الصادق ونخبة من الأساتذة، الدكتور عبدالله التطاوى، د.محمد منصور هيبة ود.أحمد بلبولة، عميد كلية دار العلوم.. واحتشد الطلاب من جميع الكليات فى لقاء عاد بى إلى ذكريات عزيزة فى رحاب القاعة الكبرى تلك القطعة من تاريخ مصر الحضارة والرقى ونهضة العقول وسحر الأماكن
◙ قلت للطلبة، وقد احتشدوا فى القاعة الكبرى، إننى أعترف بضعفى الشديد أمام جامعة القاهرة؛ المكان والمبنى والشوارع والأشجار، فهى واحدة من قصص الحب التى رافقتنى طوال سنوات العمر، أحلاما وثقافةً وعلما، بأساتذة ورفاق، رحلة حلمت فيها، وكانت باكورة أحلامى، وتعلمت فيها وكانت قناديل أضاءت عقلى، وعرفت كيف أتعامل مع المكان وأحبه قبل أن أسكن فيه، وأدرك أن هناك ثلاثية تحكم مسيرة البشر ؛ هى الزمان، والمكان، والإنسان، فالإنسان هو الذى يبنى المكان ويصنع الزمان.. ولهذا، لا يمكن أن تتشابه الأماكن أو الأزمنة، والإنسان يبقى معجزة الكون الكبرى..
وقلت، أنتم تجلسون فى قاعة المحاضرات الكبرى، التى زارها كل رؤساء مصر، وكان فيها «لقاء السحاب» بين كوكب الشرق والنهر الخالد الذى أنتج «أنت عمرى».. كرمت مصر فيها عشرات الملوك والرؤساء، وخطب فيها شيراك وأوباما، وشهدت مظاهرات شباب مصر ضد النكسة، وكانت دائما من قلاع الحرية وكرامة الإنسان.
◙ تحدثت مع الطلاب عن جامعتهم العريقة، التى أنشأتها الأميرة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل منذ أكثر من مائة عام، وتبرعت بأغلى مقتنيات تقدمها المرأة، وهى مجوهراتها، بالإضافة إلى مساحة الأرض التى أقيمت عليها كليات الجامعة، والتى تعد مساحة ضخمة من الأراضي..
قلت إن أثرياء مصر فى عهود مضت أنشأوا المشروعات الضخمة بأموالهم لخدمة الشعب المصرى، من مدارس وجامعات ومستشفيات ودور المسنين وملاجئ الأطفال، وإن هذه الروح قد غابت الآن رغم وجود آلاف الأثرياء، سواء كانوا رجال أعمال أو مسئولين سابقين..
◙ أشرت إلى أن معظم الرموز فى مصر الحديثة هم من خريجى جامعة القاهرة، وأنه لا يوجد مثقف عربى كبير إلا وكان من أبناء جامعة القاهرة.. واقترحت إنشاء صندوق لدعم جامعة القاهرة بتلقى المشاركات من الأثرياء، ومن خريجيها، ومن أثرياء مصر والعالم العربى لتجديد منشآتها ورواتب أساتذتها ومعاملها وطلابها .. وأوضحت أن الدول الأجنبية تقيم هذه الصناديق لدعم جامعاتها، وأن الدولة يجب أن تحرص على حماية جامعاتنا العريقة، لأنها منشآت تاريخية، وقلاع علمية وحضارية لا تُعوّض.
◙ تحدثت عن السياق الجمالى لجامعة القاهرة، الذى قام على رؤى جمالية يجب أن نحافظ عليها، حيث يبدأ المنظور الجمالى للجامعة من مدخلها الشامخ العريق، ويمتد داخل المبنى بين كلية الآداب وكلية الحقوق فى جناحين بينهما حديقة واسعة، ويمتد الأفق أمام الجامعة نحو حديقة الحيوان، وفى الجانب الآخر حديقة الأورمان.. وبينهما شارع الجامعة الذى يمتد إلى كوبرى الجامعة والنهر الخالد، وفى آخر المشهد تمثال «نهضة مصر»؛ تحفة الفنان العظيم مختار .. هذا النسق المعمارى والجغرافى والجمالى يكمل صورة جامعة القاهرة، المبنى، والرسالة، والدور، والعبقرية فى البشر والمكان والزمان..
◙ قلت للطلاب، أنتم فى جامعة القاهرة، تحملون روح وطن قام تاريخه على إنسان واع متحضر، أقام هذا البناء منذ مائة عام فى مشروع نهضة متكاملة بين المكان والإنسان والزمان .. وهو مشروع ينبغى أن يمتد، ونحافظ على كل مقومات وجوده، وأن تبقى قيم الجمال جزءا لا نفرط فيه، ولا نستسلم لعواصف القبح، والارتجال، والعشوائية ..
لم تكن جامعة القاهرة جامعةً للعلم والشهادات فقط، ولكنها كانت مشروعَ نهضةٍ ووعيٍ واستنارة .. كان اختيار مكانها، والأفق الفسيح الذى يحيط بها، وحديقة الحيوان وحديقة الأورمان، نسقا جماليا وحضاريا جمع البشر والطبيعة والزمن فى مكان واحد، يعكس صورة مجتمع توحَّدت فيه عناصر جمالية تؤكد مشروع نهضة فى الفكر والإبداع والجمال.
يجب أن تكونوا على يقين أنكم تنتمون لوطن شامخ صنع الحضارة وكتب التاريخ وآمن بقيم الجمال والانتماء والتسامح، وأن مسئوليتكم هى الحفاظ عليه فى كل شيء .. عليكم أن تدركوا كلما شاهدتم جامعة القاهرة ومبناها الشامخ وقاعتها الكبرى، أن مصر كانت وستبقى شمسا لن تغيب..
◙ كانت صور الرموز التى عرفتها وحلمت معها تطوف أمامى على جدران القاعة العتيقة : د. محمد مندور، وشوقى ضيف، ويوسف خليف ومحمد أنيس، والخشاب، وعبد اللطيف حمزة، ورشاد رشدى، وخليل صابات، والتهامى، وسويف .. وكل واحد منهم طرح فى فكرى سؤالا، وحرك وجدانى، وغرس فى أعماقى حلماً جديداً.. قلت للطلبة إننى مدين لجامعة القاهرة ؛ أساتذةً وعمرا وذكرى، وأنها تمثل دينا كبيرا لا أملك الوفاء به.. شعرت بالامتنان لرئيس الجامعة وأساتذتها، وهم يتحدثون عن الرموز التى تخرجت فى جامعة القاهرة، وكنت أشعر بالزهو لانتمائى لهذه القلعة العتيقة من قلاع العلم والنهضة..
إن جامعة القاهرة التى تعكس صورة مصر من مائة عام مضت كانت تاريخا عريقا وينبغى أن تبقى حاضرا مضيئا وأن تقدم لمصر تلك النماذج والرموز التى صاغت العقل المصرى والعربى وكانت مفاتيح أضاءت الوجدان بسحر الإبداع والوعى والثقافة
◙ أعترف بأننى قضيت وقتا جميلا ممتعا فى رحاب جامعة القاهرة، وفى قاعتها الكبرى، فى صحبة رئيسها وأساتذتها وطلابها.. وعادت بى سنوات العمر وأنا أسير بين دروبها وأطوف بين كلياتها وأقضى الساعات بين مكتباتها، أسمع الأساتذة، وأحلق فى سماء أحلامى، وأبنى عالما جديدا من الجمال والأمل والبهجة.. ومازالت أحلامى تطاردنى لأن جامعة القاهرة ليست مكانا يشبه كل الأماكن فقد جمعت الزمن والمكان والذكرى وكلها أشياء صاغت وطنا وشيدت نهضة وأقامت حضارة..
..ويبقى الشعر
نَغَمٌ أنـَا ..
يَنسَابُ مِنْ شَفتـْيـِكِ
تهْدأ وشوَشاتُ الموجِ
تسْكن همهَماتُ الريح ِ
تنطلقُ العصافيرُ الجَميلة ُ
فى سَماءِ الكـَوْن ِ
يطوى الصَّمتُ أعناقَ الشجرْ
هلْ تهربينَ مِن ارتعاش القلبِ
مِنِ صَخبِ الحنين
مِنِ اندلاع ِ النورِ
فى القلبِ الحزِين المنكسرْ ؟
◙ ◙ ◙
حلمٌ أَنـَا ..
هل تكرهينَ مواكبَ العشـَّاق ِ
والأشواقُ ترقصُ فى ركابِ الحُلم ِ
والزمن الجميل المنتظـرْ
أم تندَمين على الزمان ِ وقدْ مَضَى ؟!
مَنْ يُرجعُ الأيامَ يا دنياىَ ؟!
لنْ يُجدى البكاءُ ..
على زمَان ضاعَ منـَّا .. وانـْدَثرْ
◙ ◙ ◙
خوْفٌ أنـَا ..
ماذا سيفعلُ عاشقٌ
والليلُ يطردهُ إلى الآفاق ِ!
تتبعهُ جيوشُ الحزن ..
تتركـُه بقايا بينَ أشلاءِ العُمرْ
فى أىّ جُرح ٍ فى ربُوع القلب
كنتِ تسافرينَ .. وتعبثينَ ..
وجُرحىَ المسْكينُ فى ألم ٍ يئنُّ وَينفطـْر؟
سَفرٌ أنـَا ..
إنى أراكِ على رحيل ٍ دائم ٍ
وأنا الذى علمَّتُ هذا الكوَن
ألحانَ الرحيل ..
وكانَ شعرى أغنياتٍ للسفرْ
كمْ عشتُ أرسمُ فى خيالى
صورة العمر الجميـِل
وصرتُ مثل الناس
تمثالا ًمن الشمْع الرَّخيص
بأىّ سعر قد يُباعُ ..
بأى سهم ٍ.. ينكسرْ
◙ ◙ ◙
ألمٌ أنا ..
لا شَىء فى البستان ِ يبقى
حين يرتحلُ الربيعُ
يَشيخُ وجهُ الأرض
تصمتُ أغنياتُ الطير .. يرتعدُ الوترْ
فى روضة العشاق
أرسُمُ ألفَ وجهٍ للقاءِ ..
وألفَ وجهٍ للرحيل ِ..
وألفَ قنديل ٍ..
أضاء العمرَ شوقـًا .. وانتحرْ
◙ ◙ ◙
حُزنٌ أنا ..
إنى لأعرفُ أنَّ أحزانى
ضبابٌ يملأ الكونَ الفسيحَ
يسدُّ عينَ الشمس ِ
يَخْبُو الضوءُ فى عَينى
فلا يبدو القمرْ
أنسابُ فى صحراءِ هذا الكون
تنثرنى الرياحُ .. وتحتوينى الأرضُ
ثم أعودُ أمطارًا يبعثرها القدرْ
◙ ◙ ◙
وهمٌ أنا ..
ليلٌ .. وأغنية ٌ.. ونجمٌ حَائرٌ
قد كان يتبعنى كثيرًا ..
ثم فى سَأم ٍ عَبرْ
سطـَّرتُ فوقَ الشمس أحلامى
وفوق اللافتاتِ البيض ِ..
فى الطرقاتِ .. فـَوقَ مرايل الأطـْفال
رَغـَم الصَّمتِ .. أنطقتُ الحَجرْ
ماذا سأفعلُ والزمانُ المرُّ
يُسكـُرنى من الأحزان ِ
والأملُ الوليد يُطل فى عينى
ويخذلنى النظرْ ؟!
سافرتُ ضوءًا فى العيون
وعدتُ قنديلا حزينـًا ..
ينتشى بالحُلم ِ أحيانـًا
ويطفِئهُ الحذرْ
◙ ◙ ◙
هذا أنا ..
سفرٌ .. وأشواقٌ .. وقلبٌ هائمٌ
وشراعُ ملاح ٍ تهاوى .. وانكسرْ
ضوءٌ يُطلُّ على جبين الأرض
نارٌ فى الضلوع .. لـَهيبُ شوق يستعرْ
دمعٌ أمام العشبِ ينزفُ .. تنبتُ الأوراقُ
تحملها الرياحُ إلى الفضاءِ
ويحتويها الموتُ فى صمت الحُفرْ
روحٌ تـُحلــّقُ ..
فوق أنفاسى تلالٌ من جليدٍ
فوق أقدامى جبالٌ من حديدٍ
بين أعماقى حنينٌ للسفرْ
◙ ◙ ◙
هَذا أنا ..
بالرغم من كلّ العواصفِ
تهدأ الأشجارُ أحيانـًا
وتترك نفسها للريح ِ أحيانـًا
فيسْكـُرها المطـْر
سأعيشُ فى عينيكِ يومًا واحدًا
أنسى به الزمنَ القبيحَ ..
أطهرُ الجسدَ العليلَ ..
أذوبُ فيكِ .. وأنصهرْ
يَومٌ وحيدٌ فى ربوعكِ أشتهـِيهِ
بغير حزن ٍ.. أو هموم ٍ.. أو ضجرْ
يومٌ وَحيدٌ فى ربوعِكِ أشتهيهِ
وَسوف أمضِى ليسَ يَعنِينـِى
زَمانٌ ..
أو مكانٌ ..
أو بشرْ