بقلم: عبد المنعم سعيد
مضى ثلاثة أرباع قرن على بداية «القضية الفلسطينية» التى طالت أكثر من كل القضايا العربية الأخرى للتخلص من الاستعمار والاحتلال الأجنبى. كانت كل القضايا بسيطة التكوين الفكرى فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية الذى بات فيه التخلص من الإمبريالية الأوروبية أمرا مطلوبا ومستحبا، مع دعم ذلك بأشكال من النضال السياسى والعسكرى. «القضية»، التى باتت مركزية، أخذت شكلا مختلفا عن القضايا الأخرى، فقد كان محورها الاستيطان من قبل جماعة أخرى أتت بدعوة دينية كان فيها وعد إلهى بأرض، تولت بريطانيا تحويله إلى وعد بلفور لكى يكون هناك وطن قومى لليهود. الغالبية الكبرى من المستوطنين أتوا للتخلص من آثار اضطهاد جرى فى بلاد أخرى بأوروبا الشرقية، ثم جاءت «المحرقة» الألمانية أثناء الحرب لكى تدفع المزيد منهم إلى «أرض الميعاد».
مثل هذه الحالة من الاستعمار اختلفت عن تلك التى جاءت من دول عظمى فى إطار المنافسة فى السيطرة على العالم، وكان فيها من التجربة الأوروبية الشرقية ما يجد فيها الفلسطينى وجها يماثله فى الرؤية حول شكل الوطن المراد. فى مواجهة «اليهودى» الذى صار «صهيونيا» بالقدوم إلى فلسطين كان لابد من وجود «الإسلامى» الذى بدأ بالشيخ أمين الحسينى وتبعه كل أشكال الإسلام السياسى. وفى مواجهة «الصهيونية» القومية كانت «العروبة» التى تجعل فلسطين قضية مركزية لكل العرب، وعندما ظهر أن من أتوا رغم كثير من الخلافات أن الدولة الإسرائيلية تقوم على نظام سياسى قائم على الأسس الديمقراطية والانتخابات الدورية فى مؤسسات عدة، فإن «العلمانية» الفلسطينية باتت ضرورية هى الأخرى وإن وجدت فى النضالات «الماركسية» ما يكفى للاندفاع نحو العالم المعاصر. باختصار وجد الفلسطينى فى المرآة الإسرائيلية ما يدفعه إلى ساحة النضال بدوافع وأساليب أيديولوجية متنوعة تكفى لاتهام الآخرين بالمروق والسببية فيما آلت إليه القضية من مصير وصل بنا إلى اللحظة الراهنة التى تجرى فيها حرب غزة الخامسة، وهذه باتت تواجه زمنا مركبا جعل للقضية وجوها أخرى تناسب الزمن الراهن.
الوجه الأول دولى يجرى بين الولايات المتحدة القوة العظمى فى العالم، والدولة الإيرانية الثورية الدينية الإسلامية الشيعية والتى منذ ثورتها الكبرى فى عام ١٩٧٩ وهى فى حالات من المناكفة والمواجهة مع القوة الأولى.
الموضوع الأساسى بين القوتين هو تقييد قدرة إيران على امتلاك السلاح النووى الذى بدأ باتفاق واشنطن مع خمس دول أخرى - روسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا- عام ٢٠١٥ مع إيران على أساس المقايضة بين توقف طهران عن الحصول على السلاح مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها. فى مايو ٢٠١٨ قامت إدارة الرئيس ترامب بالانسحاب من الاتفاق، معلنا المواجهة مع إيران التى بدأت هى الأخرى فى تجهيز نوع من «الدفاع المتقدم» أخذ شكل إنشاء «ميليشيات» هجومية مسلحة تسليحا جيدا هى قوات الحشد الشعبى فى العراق، وحزب الله فى لبنان، وقوات الحرس الثورى الإيرانى فى سوريا، والحوثيون فى اليمن وحماس والجهاد الإسلامى فى فلسطين. هذه القوات المختلفة قامت بأدوار عدة لمواجهة الوجود الأمريكى فى المنطقة، وفى الخليج، ولم تجد معضلة فى توجيه ضربات إلى دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
الوجه الثانى نجم عما سمى الربيع العربى (٢٠١٠- ٢٠١٣) الذى خرجت منه ثلاثة تيارات سياسية فى الدول العربية: أولها تيار الشباب لإسقاط النظم القائمة، ولكن بعدها لم يوجد سوى الفوضى التى لا تقود لمشروع وطنى من أى نوع. وثانيها قوى «الإسلام السياسى» من الإخوان المسلمين حتى «داعش» بدرجات مختلفة من «الممانعة» للنظم القائمة فى الداخل و«المقاومة» لإسرائيل، وكل ما هو فى خارج الدين والملة على طريق عودة الخلافة الإسلامية أو الإمام المنتظر. وثالثها القوى السياسية التى وجدت ليس فقط النظم السياسية تتساقط، وإنما عالما جديدا من الإصلاح داخل الدول النامية يكفى لأخذ البلاد إلى التقدم عبر سلسلة من الإصلاحات والتحديث يستند إلى هوية وطنية يتجدد فيها الخطاب الدينى، ويتم فيها اختراق إقليم الدولة لتحقيق التواصل داخلها، واستغلال ثرواتها الكامنة استنادا إلى الشباب المتواصلين مع العالم المعاصر. اعتبارا من عام ٢٠١٥ ذاع ذلك فى دول الخليج العربية ومصر والأردن والمغرب «رؤية» للتنمية والتقدم خلال العقود القادمة. هذه القوى «الإصلاحية» باتت لديها حاجة ماسة للاستقرار فى المنطقة بعد سنوات من الحروب والمواجهات الأهلية والخارجية، والصراع العربى الإسرائيلى، والصراعات مع الدول الإقليمية. هذه الدول أقامت سلاما تعاقديا مع إسرائيل (مصر والأردن) أدى إلى تحرير أراضيها المحتلة، والسلام «الإبراهيمى» القائم على التطبيع والتعاون فى مجالات فيها مصالح مشتركة (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب)، والاتجاه نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا ما قدمت تنازلات ملموسة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية (المملكة العربية السعودية). هذا التوجه خلق موقفا يحقق انقلابا استراتيجيا فى المنطقة خاصة فى مواجهة «الإسلام السياسى» بقيادة إيران.
الوجه الثالث بلغ التناقض الإسرائيلى الفلسطينى أوجه مفجرا فى ٧ أكتوبر من العام الماضى، وبالنسبة لإسرائيل فإن ذلك كان بداية الحرب الشاملة على الفلسطينيين فى غزة، وكذلك فى الضفة الغربية بوسائل متعددة. وبالنسبة للفلسطينيين فقد كان هذا اليوم «نتيجة» بسنوات طويلة من الشقاء والمعاناة تحت الاحتلال الإسرائيلى، ولكن هذا التعريف للموقف لم يشمل كامل القوى السياسية الفلسطينية، وإنما جاء من جانب حماس ومعها قوى راديكالية أخرى رغم ما كان قائما من تعاون بين حماس وإسرائيل خلال الأعوام السابقة تسبب فى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، حيث توجد السلطة الوطنية الفلسطينية. كان اليوم هو نقطة البداية التى سرعان ما شملت الجبهتين اللبنانية حيث حزب الله، والسورية حيث الحرس الثورى الإيرانى. تدخلت قوات الحشد الشعبى العراقية بهجمات على القواعد الأمريكية فى العراق والأردن، ومعها قامت جماعة الحوثيين فى اليمن بشن الهجمات على حرية الملاحة وحركة التجارة العالمية فى البحر الأحمر حيث يمر فى البحر ١٥٪ منها و١٢٪ فى قناة السويس المصرية.
الوجه الرابع كان مسار الحرب نفسها التى باتت مثل كل الحروب فى العالم قاسية ومرعبة، وبلغت الخسائر الإسرائيلية فيها من القتلى والجرحى ما يفوق العديد من الحروب العربية الإسرائيلية السابقة. وعلى الجانب العربى فى غزة والضفة الغربية ولبنان كانت النتيجة مروعة كما هو معلوم: من القتلى أربعة وثلاثون ألفا والجرحى سبعة وسبعون ألفا والتدمير الشامل بقطاع غزة لما يزيد على ٦٠٪ من ساحة البناء. وعلى الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى جرت موجات من النزوح السكانى الذى كان منظما فى إسرائيل للشمال والجنوب، بينما كان مع الفلسطينيين مدفوعا شمالا وجنوبا حسب الخطط العسكرية الإسرائيلية التى حققت سلسلة من النكبات التى سوف تشكل وجدان أجيال قادمة.
الوجه الخامس كان تركيزه على التعامل مع كل الوجوه السابقة ومحاولة تجاوزها من خلال عملية تفاوضية تحقق هدنة قصيرة المدى، أو طويلة المدى تحقق سلاما!.